عبد الناصر البنا يكتب : رمضان .. قصص وبقايا حكايات فى الذاكرة ( 2 ــ 4 )

عبد الناصر البنا – الفضائية المصرية
هناك فى الصعيد رمضان له طعم ومذاق مختلف ، وهكذا رمضان فى كل محافظات مصر ، كل محافظة لها خصوصيتها وعاداتها وتقاليدها التى إرتبطت بهذا الشهر الفضيل ، وعندما تتحدث عن الصعيد الجوانى لابد أن تتوغل فيه برفق فالكلمة هناك لها ألف حساب وحساب ، والحقيقة أن الذاكرة لاتخلو من القصص والحكايات التى إرتبطت بالشهر الكريم عايشتها طوال فتره الصبا والشباب هناك .
ولكن دعونى فى البدايه أأكد على أن هناك الكثير من القيم والمبادىء والأخلاق التى تحرص الأسرة فى الصعيد على غرسها فى أولادهم منذ نعومه أظافرهم ومنها ” الأمانة والعيب والشرف والأخلاق وإحترام وتوقير الكبير .. إلخ ، بل أن أمثلتهم الشعبية تؤكد تلك المعانى فيقال على سبيل المثال ” إللى مالوش كبير يعمله كبير ” – “اللى ما يسمع لكَبيرَه يا تَعَاتِيرَه ” وهكذا
وإذا تحدثنا عن ” التدين ” فالصعيدى متدين بطبعه ، وهو وإن كان حاد الطباع بحكم قسوة البيئه التى نشأ فيها ، إلا أنه طيب القلب يرتضى بكلمه تطيب خاطره ، وتزداد هذه الطبية كلما توغلت جنوبا ، أما غرس تلك القيم الدينيه فيبدأ منذ الصغر ، فيحرص الأب على أن يعًود أولاده على آداء الصلاة فى وقتها وعلى حفظ كتاب الله ” قبل أن تندثر الكتاتيب التى كانت تفرخ أجيالا من حفظة كتاب الله “
أما صيام رمضان فيعتاد الطفل عليه منذ سن السادسة أو السابعة وقبل أن يخط شاربه بل ومن العيب أن تجد طفلا تجاوز ذلك السن مفطرا فى رمضان ، وكثيرا مايتباهى الأطفال بصيامهم فى سن صغيرة ، ومن يضبط مفطرا فى رمضان لابد أن يزف زفة المطاهر ويقال له : ( يا فاطر رمضان.. يا خاسر دينك .. كلبتنا الحمرا تلق ف مصراينك ) كلمات مقفاة أيا ماكان معناها ولكنها تهدف فى النهاية إلى فضح من يضبط مفطرا فى رمضان .
يأتى الإختبار الحقيقى للصيام ومدى تجمل الجوع والعطش إذا جاء رمضان فى أشهر الصيف ” يوليو ـ أغسطس ـ سبتمبر ” تلك الشهور تقترب فيها درجة حرارة الجو فى الصعيد من الـ ” خمسين ” درجه مئوية ، ولكن من فضل الله أن نسبة الرطوبة دائما ماتكون منخفضة أى أنك لو جلست فى الظل أو تحت شجرة فلا تشعر بحراره الجو ، ولكن من أين يأتى الظل والناس تلهث وراء لقمة العيش !!
لايخلو الشهر الفضيل من أسئلة تقليدية يمكن أن تكون قد سئلت عشرات المرات إلى أئمة المساجد فى الجلسات التى تقام عقب آداء الصلاة .. يامولانا ” نسيت وشربت ـ أخدت حقنة ـ قطرة للعين ـ بخاخة ـ كحيت ـ عطست.. إلخ ، أسئلة نعلمها ، ونعلم الإجابة عنها جيدا ، وقد لاتخلو أحيانا من الطرافة ” كان يأتى أحد البسطاء وينزوى بالخطيب وهو يقول : يامولانا أنا أكلت مانجاية ” ثمرة مانجو ” صغيرة آآد كده عحبتنى وماقدرتش أمنع نفسى منها أبقى فطرت ، يصحك الإمام وهو يقول : مادامت صغيرة آآد كده بنفس الصوت وحركة اليد وهو يصفها تبقى مافطرتش ، بس ماتعملهاش تانى ويضحك الجميع .
من الطبيعى أن تكون ليالى شهر رمضان عامرة بالذكر وتلاوة القرآن الكريم ، وقد إعتادت الأسر الكبيرة فى الصعيد على ” ترتيب” أحد المشايخ لقراءة القرآن بعد صلاة العشاء والتراويح ، وتمتد تلك السهرات إلى قرب السحور ، وهو طقس تحرص عليه أغلب العائلات حتى يومنا هذا ، ومن الطريف أن يختلف أبناء العم فى أحد القرى المجاورة لنا حول الشيخ الذى سوف يتولى القراءة وحصلت بينهم فٌرقة ، فأقسم أحدهم أن يحضر شيخا له شهرة واسعة نكاية وتحديا لـ إبن عمه ، وكانت قريتنا تشتهر بأفضل القراء ومنها الشيخ عمر حجاب ” رحمه الله ” الذى تتلمذ الشيخ عبدالباسط عبدالصمد على يديه وعلمه القراءات والمقامات وأحكام التلاوة .
وقبل دخول شهر رمضان بأيام أخذ الرجل المعديه قاصدا قريتنا فى الضفة الغربية للنيل إلى بيت الشيخ أبو المجد عبادى ” رحمه الله ” أشهر قارىء لكتاب الله ، بعد أن وصفوا له مكان البيت الذى يجاور “جامع شورى ” ، وعندما وصل إلى الجامع سأل عن الشيخ أبو المجد فدله أحد الماره على الشيخ أبوالمجد وهنا لعبت الصدفة دورها لأنه للأسف لم يكن الشيخ أبو المجد عبادى القارىء الشهير ، وإنما كان واحدا من الصعاليك يلقب بالشيخ أبو المجد ، نظر الرجل إليه وتعجب من أمره وحال باله يقول أهذا هو الشيخ أبو المجد ذائع الصيت يجلس هكذا على الأرض بمنتهى البساطة ، وإعتقد أنه تواضع الزهاد ، ولم يقف طويلا أمام الأمر .
جلس الضيف إلى جوار الشيخ أبو المجد وقص عليه القصة وإختلافه مع إبن عمه وأنه أقسم أن يحضر أفضل
من قرأ القرآن .. إلخ ، ودس فى يده مبلغا كبيرا من المال بمقياس ذلك الزمان ، وأعطى له العنوان وإتفقا على الموعد أول ليلة من ليالى رمضان ، كان بديهيا أن يفطن الصعلوك إلى أنه ليس هو المقصود ، ولكنه قال رزق الهبل على المجانين ؟
وفى أول ليلة من ليالى رمضان إستقل الشيخ أبو المجد المعدية بعد أن إستأجر جبة وقفطانا ” كاكولا ” وطربوشا من أحد المشايخ حتى يبدو على هيئة الشيخ ، ووجد من ينتظره بحمار إستقله إلى ” الساحة ” التى سوف تقام فيها التلاوة وكان المنظر مهيبا وقوبل بترحاب غير عادى .
لم يعبأ الرجل بذلك وأخذ يسوف فى ضياع الوقت إلى أن أمره أحدهم بالقراءة وهو لا يحفظ من كتاب الله سوى آيات معدودات فقرأ ” إذا السماء إنفطرت ” ولأنه حكاء ظل يقص عليهم القصص ويحكى الحكايات حتى أمره الرجل بالقراءة مرة ثانية فقرأ ” إذا السماء إنفطرت ” وهو لايحفظ غيرها وتكرر المشهد ، وهنا إنفعل الرجل عليه وقال ” فطرت .. فطرت ” هى الـ واكله ناسها دى ” تعبير صعيدى يفيد الضيق ” ما صامتش أبدا ، وإنكشف الأمر ، وحدث مالايحمد عقباه ، وإختلط الحابل بالنايل ، وهرب الشيخ بعد أن خلع ثيابه وخبأها ولم يعرف أحدا مكان هروبه .
وتبقى الذكريات وبقايا الحكايات فى الذاكره .. وللحديث بقيه إن شاء الله .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.