الدكتور محمد عثمان الخشت يكتب : ضد التصور الأسطوري للمرأة (١٢)

الدكتور محمد عثمان الخشت
صباح الخير والنور.. لم يكن قلبها فارغا يوما ما .. سلام عليها وسلام لها
مقال مهدى إلى حبيبتي في عيدها
” المشهد الختامي الرائع عن الرزق الإلهي لذلك الجزء من قصة امرأة عمران وابنتها مريم عليهما السلام، يبين أيضا أنه لا يوجد تمييز في الرزق على أساس الذكورة والأنوثة؛ فالله يرزق من يشاء بلا حساب، (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الَهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، (سورة آل عمران، 37).
إذن فلا اعتبار للذكورة والأنوثة في نوال الرزق، ولا ميزة إضافية للذكر- من حيث كونه ذكرا فقط – تجعله في موضع أفضل من الأنثى لنوال الكرم الإلهي؛ فالأمر كله مرتبط بالمشيئة الإلهية والعمل الصالح والشخصية الصالحة، سواء كانت ذكرا أم أنثى، وسواء كان الرزق استحقاقا نتيجة الجهد أو كرما وعطاء إلهيا، فلا اعتبار في أية حالة من الحالتين لمعيار الأنوثة والذكورة.
وقد كَفَلَها زكريا عليه السلام، ورباها وتولى شئونها، بعد أن اختلفوا على من يكفلها، فكانت من نصيب زكريا، (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)، (سورة آل عمران، 44).
فقد اختلفوا بينهم على من يكفلها، وحسموا هذا الاختلاف بالاقتراع والمساهمة عند التنازع على العادة التي كانت سارية في حسم الخلاف، “فيطرحون سهاما يكتبون عليها أسماءهم. فمن خرج له السهم سلم له الأمر.
مثل قوله في موضع آخر: (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (الصافات: 141)، وهو شبيه بالقداح التي يتقاسم بها العرب لحم الجزور. وإنما سميت تلك السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى. قال القاضي: وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحا نظرا إلى أصل الاشتقاق
إلا أن العرف الظاهر يوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به فوجب حمل اللفظ عليه”، (تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري، 2/ 161). وحدث خلاف بين المفسرين في تحديد هوية منْ هم المختلفون على الفوز بالقيام بتربيتها، فقيل: هم خزنة البيت. وقيل: بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي. ويرى النيسابوري أنه “لا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في طريق الخير”، (غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري، 2/ 161).  وفي حدود ضابط تفسير القرآن بالقرآن، وفي حدود سياق القصة في القرآن، يبدو أنهم آل عمران، فالسياق كله حولهم.
والملفت أن هذه المنافسة حول كفالتها تكشف عن أمور عديدة، لعل من أهمها أنه يجب أن نستنج منها، بشكل مباشر ودون أي إسقاط على النص، أنهم لم ينصرفوا عنها لكونها أنثى ولم يقللوا من شأنها،
بل كان لكل منهم رغبة شديدة في تولي تربيتها والقيام بشئونها، وأنهم تقبلوا ببساطة فكرة أنها محررة للعبادة في المعبد. ولم يخرج منهم أحد – في حدود ما ذكره القرآن الكريم- رافضا الفكرة بحجة أن هذا اختصاص الذكور.
واستقرت مريم في المحراب، شأنها شأن الذكر الصالح المحرر للبيت، سواء كان المحراب غرفة أو مسجدا، وسواء كان الْمِحْرابَ هو الْمَوْضِعَ الْعَالِيَ الشَّرِيفَ أو كان أشرف مواضعه ومقدمها. وفي كل الأحوال لا يوجد تمييز إلا التمييز القائم على طبيعة الشخصية، وليس التمييز القائم على الأنوثة والذكورة.. (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا)، (سورة آل عمران، 37).
وهذا كما يقول شهاب الدين الألوسي (المتوفى: 1270هـ) في تفسيره: “بيان لقبولها ولهذا لم يعطف…”، (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، 2/ 134). وقد يكون المحراب غرفة بُنيت لها في بيت المقدس،
وقد يكون المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب، وقد يكون أشرف مواضعه ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد في رأي، وأصله مفعال صيغة مبالغة- كمطعان- فسمي به المكان لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه، وقيل: إنه يكون اسم مكان وسمي به لأن محل محاربة الشيطان فيه أو لتنافس الناس عليه. (روح المعاني، 2/ 134).
وذكر الرازي أن الْمِحْرابَ هو الْمَوْضِعَ الْعَالِيَ الشَّرِيفَ، وَاحْتَجَّ الْأَصْمَعِيُّ – في إطار تفسير القرآن بالقرآن- عَلَى أَنَّ الْمِحْرَابَ هُوَ الْغُرْفَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (ص: 21)، وَالتَّسَوُّرُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عُلُوٍّ، وَقِيلَ: الْمِحْرَابُ أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ وَأَرْفَعُهَا، (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، 8/ 206- 207).
وهذا ما أيده القرطبي في تفسيره على أساسا معيار التفسير باللغة، يقول : “الْمِحْرَابُ فِي اللُّغَةِ أَكْرَمُ مَوْضِعٍ فِي الْمَجْلِسِ”، (الجامع لأحكام القرآن، 4/ 71).
إذن فهي على أية حال، في موضع شريف ومقام كريم، سواء كان غرفة في المعبد أو في مكان مخصوص منه، المهم أنها في المحراب، والمهم أنها قائمة تصلي فيه، مثلها مثل زكريا الذي كان يصلي أيضا في محرابه، (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)، (آل عمران، 39).
فمن أين أتى المفضلون للذكر على الأنثى بما يقولون في اختصاص الذكر بالتعبد في المحراب وخدمة البيت؟ إن القرآن الثابت ثبوتا يقينيا بروايات متواترة تاريخيا لا يوجد به نص مباشر مبين يقول هذا، ولا يجوز إسقاط معان وتفسيرات عليه بالاستناد إلى روايات آحاد غير متواترة، ولا بقصص ومرويات تاريخية ظنية الثبوت أو موضوعة، ولا بصور ذهنية متوارثة، ولا قوالب اجتماعية أو نفسية متراكمة عبر التاريخ.
ويستمر السياق القرآني المبين، فيقول: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)، (آل عمران، 43 -44). هكذا – لا فرق بين ذكر وأنثى- في مقام القنوت، ولا فرق بين ذكر وأنثى في السجود والركوع مع الراكعين؛ وليس أي منهما أقرب إلى الله إلا بقلبه وعقله وعمله؛ فكل بدرجة إنسان، وكل يتوجه نحو الواحد الأحد، وكل في ميزان العدل بمقياس واحد، وكل يُقيَم عمله بمعايير الإنصاف وحدها، وكل يخدم في المعبد، وكل يساهم في صناعة التاريخ، وكل يخضع لقواعد القبول في إطار عدالة الله مطلقة، وليست عدالة البشر النسبية.
فسلام على امرأة عمران، وسلام على مريم، وسلام لكل أم متفانية واعية، وسلام لتلك التي باعت جزءا من مصاغها لتشتري لصبيها الشغوف تفاسير روح المعاني، ومفاتيح الغيب، وغرائب القرآن، والجامع لأحكام القرآن؛ حتى تزيد مكتبته وتتسع وتتنوع المرجعيات أمام نظره.
سلام ورحمات وأنوار على كل امرأة تقوم بواجبها، وسلام ورحمات وأنوار لكل امرأة تصنع رجلا أو امرأة. وسلام ورحمات وأنوار على زكريا وعلى كل رجل يعيش من أجل ربه، من أجل أسرته، من أجل الآخرين، من أجل الإنسانية”.
د. محمد الخشت
أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.