فاروق شرف يكتب : السياحة .. رسالة حضارية وجسر محبة بين الشعوب

مدخل الهرم الجديد

فاروق شرف

السياحة ليست مجرد نشاط اقتصادي أو مصدر دخل قومي فحسب، بل هي مرآة تعكس هوية الشعوب، ونافذة نطل منها على العالم ليعرف من نحن، وما نملكه من إرث حضاري وإنساني جدير بالاحترام والتقدير.

عندما نزور موقعًا أثريًا أو مدينة تاريخية، فإننا لا نكتفي بمشاهدة الحجارة والآثار، بل نلامس عبرها روح حضارة، ونتأمل في عبقرية إنسان صاغ مجده بالفن، والمعرفة، والعمارة.

لذا فإن فضل السياحة على البلاد لا يقتصر على إنعاش الاقتصاد، بل يتعداه ليشمل ترسيخ ثقافة الحوار، ونشر المحبة بين الشعوب وتعزيز الفخر الوطني لدى الأجيال.

إن المردود الاقتصادي للسياحة مهم، ولكنه لا يجب أن يكون هو الغاية الوحيدة أو الأولى. فهناك مردودات أخرى لا تقل أهمية، بل تضمن استمرارية السياحة كقوة ناعمة مؤثرة، وكصوت عالمي يخبر الآخرين من نحن. من خلال السياحة، نُعرّف العالم بحضارتنا، بتاريخنا، بتسامحنا، وبقدرتنا على التعايش. وهذا بحد ذاته رفعة لا تقدر بثمن ، لكن، ماذا يجب علينا فعله من أجل رفعة السياحة؟

أولًا.. يجب الحفاظ على الصورة الحضارية للبلاد، من خلال احترام السائح والترحيب به، وتقديم تجربة إنسانية وثقافية راقية.

ثانيًا.. يتوجب تطوير البنية التحتية للمواقع السياحية، دون المساس بأصالتها، مع توفير سبل الراحة والأمان.

ثالثًا.. لا بد من دمج الثقافة والإعلام في دعم السياحة عبر إنتاج محتوى يحكي قصص المواقع الأثرية والحضارية بأسلوب عصري وجاذب.

وأخيرًا، من الضروري غرس الوعي لدى المواطنين بأهمية السياحة كرسالة وليس فقط كصناعة لنصبح جميعًا سفراء لوطننا أمام زواره.

إن رفع شأن السياحة لا يكون بالترويج فقط .. بل بتقديم مضمون إنساني وحضاري يشد الزائر ويجعل تجربته في بلادنا ذكرى لا تُنسى. فلتكن السياحة جسرًا نمر من خلاله إلى قلب العالم، ونُظهر فيه جوهرنا الحقيقي، وتاريخنا العريق، وقيمنا النبيلة.

يثار مؤخرًا أن عددًا من السائحين يعانون من بعض الإشكاليات أثناء زيارتهم لمنطقة الأهرامات الأثرية، خاصة عند الدخول من البوابة الجديدة، حيث يُطلب منهم مغادرة الأوتوبيسات السياحية الخاصة بهم واستقلال مركبات كهربائية للوصول إلى داخل المنطقة إضافةً إلى المحطة التبادلية .. هذا النظام المستحدث، وإن كان يهدف إلى تقليل الانبعاثات والحفاظ على البيئة، إلا أنه وفقًا لملاحظات ميدانية وتجارب متكررة – قد يؤدي إلى:-

1- إهدار وقت الزيارة: حيث أن عملية النزول، والانتظار، والانتقال بمركبات أخرى، تستهلك وقتًا ليس بالقليل، مما يقلص من زمن الاستكشاف داخل المنطقة الأثرية.

2- احتمالية فقدان مقتنيات شخصية: بسبب الانتقال من وسيلة إلى أخرى، خاصة أن بعض السائحين يتركون حقائبهم أو متعلقاتهم على متن الأوتوبيسات الأولى التي لا يُسمح لها بالدخول.

3- تجربة غير مريحة للزائر: فالسائح يأتي وهو يتوقع راحة وسلاسة في الزيارة، وليس تعدد مراحل مرهقة للتنقل قد تشتت تجربته وانطباعه.

ومن واقع عملي كمختص في ترميم وصيانة الآثار سابق، فقد عملت ميدانيًا بمنطقة الأهرامات، ولذلك أؤكد الآتي:- الأوتوبيسات السياحية الحديثة (خاصة من الفئات ) (URO 4 وEURO 5 ) هي مركبات مطابقة للمعايير الأوروبية لانبعاثات العوادم، وتُنتج أقل من 1.5 جرام من أكاسيد النيتروجين لكل كيلومتر، وهي نسبة أقل بكثير من الحد الذي قد يؤثر على الآثار في بيئة مفتوحة كالهرم.

– وبحسب تقرير اليونسكو لعام 2018 عن الحفاظ على التراث في المواقع الأثرية المفتوحة، تم التأكيد أن “البيئة المفتوحة تسمح بتبديد ملوثات الهواء بسرعة، مما يقلل من تأثيرها على المعالم الأثرية مقارنة بالبيئات المغلقة “. (UNESCO Report WHC-18/42.COM) فمثلاً :-

* في موقع الأكروبوليس بأثينا – اليونان، وهو من أهم المواقع الأثرية في العالم، تُسمح للأوتوبيسات السياحية بالوصول حتى أسفل التل مباشرة، مع توفير خيار الصعود عبر عربات كهربائية اختيارية لكبار السن، دون إلزام الجميع باستخدامها.

* في مدينة بومبي الأثرية بإيطاليا، لا يُمنع دخول الأوتوبيسات السياحية تمامًا، بل يتم تنظيم أوقات دخولها تجنبًا للزحام، دون حرمان الزوار من استخدام وسيلتهم الأصلية.

* في منطقة كابادوكيا بتركيا، وهي من المواقع الطبيعية-الأثرية المصنفة عالميًا، تسمح السلطات بمرور وسائل النقل السياحي حتى نقاط قريبة جدًا من المواقع، مع توفير وسائل بديلة فقط للراغبين في جولات بيئية بحتة.

4- منطقة الأهرامات بطبيعتها التاريخية والسياحية الفريدة، ارتبطت في أذهان العالم بالخيل والجمال والرمال، وهذه العناصر ليست فقط وسائل تنقل، بل جزء من المشهد التراثي الذي يميز الموقع ويمنحه طابعه الخاص.وإيمانًا بأهمية الحفاظ على هذا الموروث الثقافي، فإن الحل لا يكمن في استبعاده، بل في تنظيمه وتطويره بما يحقق الانضباط، ويحافظ على كرامة العاملين فيه، ويرتقي بتجربة الزائر.

لقد شهدت المنطقة في أزمنة سابقة نماذج ناجحة من هذا التوازن، وعلينا البناء على تلك التجارب، من خلال تنظيم مدروس وعادل، ومتابعة حقيقية تضمن استمرارية هذا الإرث بروح معاصرة تحترم الماضي وتخدم الحاضر.

التوصيات:

1- السماح بمرور الأوتوبيسات السياحية المعتمدة (وفقًا لمعايير بيئية محددة) حتى نقطة قريبة ومناسبة من المواقع

داخل المنطقة .. ودراسة ما هو أفضل ببدء الزيارة لترسيخ إنطباع حضاري عظيم.

2- توفير خيار النقل الكهربائي كخدمة إضافية اختيارية، وليس إجبارية.

3- تنظيم الدخول وفقًا لمواقيت محددة لتجنب التكدس، كما تفعل معظم الدول.

4- تخصيص أماكن مؤمنة لانتظار الأوتوبيسات التي لا يُسمح لها بالدخول، وتدريب السادة المرشدين السياحيين

على توعية السائحين بعدم ترك أمتعتهم

5- التنسيق مع شركات السياحة لحملات توعية وتنظيم أفضل، يضمن انسيابية الزيارة ويحفظ الأمن والنظام.

6- التأكيد على ضرورة الحذر التام من تنظيم أو السماح برحلات الخيل والجمال ذهابًا وإيابًا بين هضبتى الهرم

وسقارة، نظرًا لخطورة ذلك على السلامة الأثرية، حيث إن سطح المنطقة بسقارة ييعتبر في حقيقته أسقفًا لمقابر

أثرية قائمة تحت الأرض، ما يجعلها عرضة للتلف والانهيار نتيجة الأحمال والاهتزازات المتكررة.”

خلاصة القول : إن حماية الأثر يجب أن تسير بالتوازي مع تحسين تجربة السائح وإن كانت هناك نسبة من العوادم،

فإنها في ظل التنظيم والرقابة، لا تمثل ضررًا يُذكر على البيئة الأثرية المفتوحة، في مقابل الراحة، والانطباع الإيجابي،

وضمان أمن السائح ومتعلقاته.

اللهم احفظ مصر، وأمّن حدودها، وبارك في شعبها، وانصر جيشها، ووفق قيادتها، وسدّد خطى شرطتها، واجعلها يا

رب واحة أمن وأمان، وسَلمٍ وسَلام، وسِعةٍ ورخاء.

كاتب المقال خبير الآثار والترميم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.