مع التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة تبرز الحاجة إلى تقييم شامل لما حدث منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم فالتطورات العسكرية والسياسية التي شهدتها هذه الفترة تستدعي تحليلًا دقيقًا يعكس الواقع المعقد ويبرز أثر هذه الأحداث على القضية الفلسطينية ومستقبل المنطقة بأكملها
على الجانب الفلسطيني ورغم الخسائر البشرية والمادية الهائلة أظهرت المقاومة قدرة ملحوظة على التصدي للعمليات العسكرية الإسرائيلية من خلال تكتيكات مبتكرة مع استخدام منظومات صاروخية متطورة نسبيًا في المدي والتأثير
هذا الأداء عزز من مكانة المقاومة كفاعل رئيسي في المعادلة لكنه جاء بكلفة إنسانية واقتصادية باهظة الثمن ، ومن بين أبرز الخسائر التي تكبدها الجانب الفلسطيني – بالإضافة إلي حوالي 47 ألف شهيد وأكثر من 110 ألف مصاب – تصاعد الدعوات الدولية لنزع سلاح المقاومة في قطاع غزة ورفض وجودها كجزء من مستقبل الحكم في القطاع، وهو ما يضع تحديات كبيرة أمام الفلسطينيين في الحفاظ على مكتسباتهم السياسية والميدانية.
وفي المقابل، واجهت إسرائيل – برغم تفوقها العسكري – تحديات غير مسبوقة تمثلت في تعدد الجبهات وارتفاع وتيرة الهجمات الصاروخية على عمقها .. والعمليات العسكرية التي خاضتها أثبتت محدودية تحقيق أهدافها المعلنة لا سيما تلك المتعلقة بالقضاء على البنية التحتية للمقاومة ما أدى إلى استنزاف الموارد وتكبد خسائر اقتصادية وعسكرية كبيرة
سياسيًا.. أعاد الصراع الأخير معاناة الشعب الفلسطيني إلى واجهة الاهتمام الدولي ليصبح محورًا أساسيًا لنقاشات المنظمات الدولية والرأي العام العالمي ، كما تعززت مكانة المقاومة كطرف لا يمكن تجاوزه في أي مفاوضات مستقبلية كحق مشروع لأصحاب الأرض المحتلة ، ومع ذلك فإن الانقسام الداخلي بين الفصائل الفلسطينية ما زال يشكل عقبة كبيرة أمام تحقيق مكاسب سياسية مستدامة
وعلى صعيد القوى الإقليمية يمكن القول إن إيران باعتبارها داعمًا رئيسيًا لحماس وحزب الله حققت مكاسب من ناحية تعزيز مكانتها كفاعل رئيسي في دعم محور المقاومة قبل أن يلحق بحزب الله هذا الانكسار الدراماتيكي وهو ذراعها الطويل في المنطقة ، وتتراجع قدرات حماس العسكرية .. لكنها تواجه أيضًا تحديات جديدة مع تغير الأوضاع في لبنان وانتخاب رئيس للجمهورية وتطبيق القرار الأممي 1701 الذي يؤثر تأثيرا كبيرا علي دور حزب الله في الجنوب اللبناني ،
وكذلك تغير الأوضاع في سوريا ورحيل نظام بشار الأسد الحليف الأساسي لها هذه الحرب ربما حققت بعض المكاسب الإيرانية التي تمثلت في زيادة نفوذها الإقليمي وإبراز دورها في مواجهة إسرائيل ومع ذلك .. فإنه هذه الحرب جلبت ضغوطًا دولية وإقليمية متزايدة على إيران خاصة مع الدعوات التي تطالب بالحد من دعمها للجماعات المسلحة وما يمكن أن يترتب عليه من عزلة سياسية أو اقتصادية خصوصا ما يتعلق بمرحلة حكم ترامب الجديدة .
في إسرائيل ساهمت الحرب في البداية في تعزيز التضامن الداخلي الإسرائيلي، لكنها سرعان ما كشفت عن انقسامات حادة حول إدارة الصراع وترتيب الأهداف وتقاطع مصالح الأطراف السياسية بالإضافة إلي تعرضها لانتقادات واسعة بسبب ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين ما أدى إلى تآكل صورتها أمام شعوب العالم .
هذه الحرب أدت إلي تداعيات مباشرة على مشاريع التطبيع مع دول المنطقة حيث تأثرت مساعي إسرائيل لتطبيع العلاقات مع السعودية بشكل ملحوظ في وقت كانت المفاوضات حول هذا الملف تسير بوتيرة متسارعة ، بالإضافة إلى ذلك ألقت الحرب بظلالها على مشروع ترامب الخاص بالتطبيع الإبراهيمي ، وأكدت هشاشة تلك الاتفاقيات في مواجهة أزمات كبرى كهذه
وقف إطلاق النار يمثل فرصة نادرة للطرفين لمراجعة مواقفهما واستراتيجياتهما إذا ما تم استثمارها بالشكل الصحيح، قد تكون نقطة انطلاق لتحريك المسار السياسي نحو حل شامل يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والعدالة، ويضمن الأمن والاستقرار بالمنطقة كما أن هذه الفرصة تتيح للمجتمع الدولي فرصة لإعادة طرح القضية الفلسطينية كملف رئيسي في المحافل الدولية بشرط أن يترافق ذلك مع خطوات لتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية وإنهاء الانقسام
المستقبل يعتمد بشكل كبير على قدرة الأطراف ذات الصلة على تحويل هذا الاتفاق إلى بداية جديدة لمسار سياسي يمكن أن يحقق سلامًا عادلًا وشاملًا مع بقاء حق المقاومة حتي قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة .