د. صبرى الغياتى يكتب : من وجوه البلاغة القرآنية

عضو المكتب الفني لوزير الأوقاف

إن وجوه البلاغة القرآنية كثيرة ومتنوعة، وهي كالأفنان تنوعا وجمالا، وما من وجه من وجوه البلاغة القرآنية إلا وهو أشبه بحديقة غناء تزدهي بألوان الزهور وأنواع الثمار، وحسبنا أن نقف أمام هذه الظلال الوارفة والثمار اليانعة خاشعين نسبح بحمد قائل هذا الكلام المعجز.
ومن ذلك أن القرآن الكريم اختص بطريقة في الكتابة تختلف عن المتعارف عليه في الخط الإملائي، كما اختص بطريقة في القراءة غير القراءة العادية، وجمهور العلماء على أن الخط المصحفي توقيفي لا يجوز تغييره أو كتابة المصحف بغير هذا الرسم، ولو تعمد شخص كتابة القرآن الكريم بغير هذا الرسم القرآني كان محرفا للكلام عن مواضعه، ولذلك تجد هناك طريقة خاصة لقراءة القرآن، ولهذا هو قرآن وليس قراءة، لأن القرآن الكريم لا بد أن يقرأ مرتلا ومجودا بالطريقة التي تلقاها النبي – صلى الله عليه وسلم -،
كما أن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف أي سبع قراءات ، وهذه الطريقة الخاصة في قراءة القرآن لها بلاغة خاصة، فمثلا كلمة “الصلاة” تقرأ عند حفص بترقيق اللام ، كما تقرأ عند ورش بالتفخيم ، ولكل من القراءتين دلالة وبلاغة، فقراءة التفخيم كما عند الجمهور وورش فيها إشارة إلى تفخيم شأن الصلاة وعلو مقامها في الإسلام فهي لا شك عمود الإسلام وعماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين، وقراءة الترقيق كأنها إشارة إلى أثر الصلاة في النفس وأصل عملها في القلب، فإن للصلاة أثر كبير في تزكية النفس وترقيق القلب، وهي النور الذي إذا حافظ العبد عليه  أضاءت بصيرته فأضحى يرى بنور الله – عز وجل -، وهذا معنى أو بعض معنى من قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ةوالصلاة نور”، وهذا باب عظيم من أبواب البلاغة القرآنية في أسرار اختلاف القراءات القرآنية.
ومن هذا القبيل ما ورد في قوله تعالى في سورة الفتح في شأن بيعة الرضوان :” إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)”، وهذه الهاء في قوله تعالى:” بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ” الأصل فيها الجر ولكنها جاءت مرفوعة حتى سميت بـ (هاء الرفعة)، وذلك أن الآية الكريمة تتناول الحديث عن بيعة الرضوان، ولما كانت هذه بيعة ترفع صاحبها إلى أعلى مراتب الرفعة، فقد ناسب ذلك أن تكون الهاء مرفوعة إشارة إلى رفعة البيعة والمبايعين جميعا.
ويقابل هذه الهاء هاء أخرى هي (هاء الخفض) وذلك في سورة الفرقان في قوله تعالى :” يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)” ، فالهاء في قوله تعالى: “وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا” ممدودة كأن فيها مد بالياء ليدل على خلودهم في أسفل دركات جهنم،  فهي هاء الخفض والضعة والهوان، وذلك مناسب لحال المتحدث عنهم، وهم من يتصفون بعكس كل الصفات الأخلاقية العالية، فلما كان حالهم من السفول والتدني والضعة والانحدار إلى أحط دركات التدني ناسب ذلك مد هذه الهاء بالخفض ليناسب انحطاطهم وتدنيهم
ونعرض الآن لبعض من أسرار اختلاف الخط المصحفي عن الخط الإملائي، بل اختلاف الكلمة الواحدة في المصحف، حيث تكتب بطريقة ما في موضع وبطريقة أخرى في موضع آخر، ومن ذلك كلمة “جنة” مفردة، فإنها وردت في القرآن الكريم كله بتاء مربوطة كما هو المعلوم من الرسم العادي، فقد ورد “حنة الخلد” و”جنة المأوى” وغير ذلك، ولكنها وردت مكتوبة بتاء مفتوحة في موضع واحد في القرآن الكريم، وذلك في موضع سورة الواقعة في قوله تعالى: “فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)”، ولكي نتعرف على سر مجيئ التاء هنا مفتوحة بخلاف ما ورد في القرآن الكريم كله فلا بد من فهم الآية الكريمة في سياقها القرآني، وغالبا ما يقسم القرآن الناس إلى فريقين  أهل الخير وأهل الشر، فريق في الجنة وفريق في السعير، ولكن هنا في سورة الواقعة وفي ساعة الاحتضار قسم القرآن الناس إلى ثلاث طوائف هم: “المقربون، وأصحاب اليمين، والمكذبين الضالين” قال تعالى: “فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)”، وجنت نعيم هنا للمقربين وهم من عرفتنا السورة الكريمة بهم في أولها بأنهم السابقون، قال تعالى:” وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)، والحديث هنا عن يوم القيمة وهذا من دقة الصياغة وحسن الربط بين أول السور وآخرها في القرآن الكريم ، وجنة نعيم هنا هي للمقربين الذين هم السابقون وهي بذلك أعلى درجات الجنان ، فهي أعلى درجة في الفرودوس أو هي الفردوس الأعلى من الجنة، ومن المعلوم أن من يكرمه الله بدخول الجنة يرتقي فيها لأعلى درجاتها فتكون أبواب الجنة كلها مفتحة أمامهم ولما كان هؤلاء السابقون في أعلى درجات الجنان قد فتحت لهم جميع أبواب الجنان ناسب ذلك أن تفتح تاء جنتهم إشارة إلى أن الجنان كلها مفتحة لهم .
ولذلك خصهم القرآن الكريم بفريدة أخرى لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في سورة التوبة حيث يقول تعالى: “وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)” فكل ما ورد في القرآن الكريم “تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ” عدا هذا الموضع، والفرق بين: ” تجري من تحتها” و “تجري تحتها” – كما يذكر البقاعي في مناسباته – أن من تحتها يعني أن الأنهار تجري في أماكن مخصوصة منها، أما تحتها، فإن الأنهار تجري في كل مكان فيها، فحيثما أردت خرجت عين صافية، وكل موضع أردته نبع منه ماء فجرى منه.
وهذا من عظيم إكرامه – تعالى – للسابقين، نسأل الحق تعالى أن يجعلنا منهم وأن يحشرنا في زمرتهم، وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.