اللواء دكتور سمير فرج يكتب : بالأمس كان عيد النصر في بورسعيد

اللواء دكتور سمير فرج
تمضي الأيام والسنين، ويعلق بذاكرتنا أحداث جسام، مرت على الشعب المصري، لعل أغلاها، ذكرى عيد النصر، الموافق يوم 23 ديسمبر، من كل عام، ذلك اليوم الذي انتصر فيه شعب مصر، وأبناء بورسعيد البواسل، في عام 1956، على قوات العدوان الثلاثي؛ البريطاني والفرنسي والإسرائيلي، بعدما تحول عموم الشعب إلى جيش يدافع عن وطنه وشرفه وعزته وكرامته.
كانت البداية يوم 26 يوليو 1956، حين أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس البحرية، لتسترد مصر قناتها، وتستفيد من دخلها في بناء السد العالي، رداً على رفض الولايات المتحدة الأمريكية تمويل مشروع بناء السد، وإجبار البنك الدولي، كذلك، على رفض تمويله. فما كان من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، إلا التآمر على مصر، بالهجوم العسكري عليها، خاصة وأن إنجلترا كانت لاتزال، حينها، تحت تأثير صدمة جلائها عن مصر، في 18 يونيو، من نفس العام، بعد احتلال دام 72 عام، فوجدت في ذلك فرصة للعودة لمصر، مرة أخرى، بينما انتهزت فرنسا الفرصة، للانتقام من الرئيس عبد الناصر، بعد تأييده لثورة الجزائر، التي كبدتها خسائر عظيمة. أما إسرائيل، فكانت تطمع في تدمير الجيش المصري، الذي بدأت قوته تتزايد، بعد صفقة الأسلحة التشيكية.
وفي يوم 24 أكتوبر 1956، وبعيداً عن الأعين، وقعت الأطراف الثلاث “معاهدة سيفر”، السرية، في إحدى المدن الفرنسية، لشن الحرب على مصر، بعد الاتفاق على الخطة النهائية، التي أطلق عليها “موسكتير المعدلة”، القائمة على تولي القوات الإسرائيلية افتعال صراع مسلح، على مشارف قناة السويس، لتستغله بريطانيا وفرنسا كذريعة للتدخل العسكري ضد مصر، بأن تصدر بريطانيا وفرنسا إنذاراً “مشتركاً” لكل من مصر وإسرائيل، لوقف أعمال القتال، والابتعاد عن قناة السويس، مع قبول مصر تولي القوات الأنجلو-فرنسية حماية الملاحة البحرية في القناة، وهو ما يعد احتلال منظم!
وقع هذا الاتفاق، عن الحكومة البريطانية، مستشارها القانوني باتريك دين، مع كريستيان بينو وزير خارجية فرنسا، وديفيد بن جوريون رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلي. وفي نفس الليلة، عاد بن جوريون إلى إسرائيل، لبدء تنفيذ مهمته بالخطة، وفي اليوم التالي، مباشرة، سلمت فرنسا وبريطانيا الإنذار لسفيرنا المصري إلى لندن، والذي تضمن إمهال مصر 12 ساعة لقبول الإنذار، ولما رفضه الرئيس عبد الناصر، تماماً كما توقعت الأطراف المعتدية، بدأ التدخل العسكري ضد مصر، بغارات على بورسعيد، يوم 5 نوفمبر 1956، تبعها إنزال المظليين من القوات البريطانية، في مطار الجميل، بالتزامن مع إنزال مظلي من القوات الفرنسية، في منطقة الرسوة، جنوب بورسعيد، إضافة إلى إنزال برمائي بحري، يوم 6 نوفمبر، على ساحل بورسعيد، بينما استهدفت القوات الجوية البريطانية والفرنسية، مقر الإذاعة المصرية، لضمان القضاء على إذاعة صوت العرب.
تصدت بورسعيد، لهذا العدوان، وأمام استبسال أبنائها، وبأس المقاومة الشعبية، عجزت القوات البريطانية والفرنسية عن التقدم نحو الإسماعيلية، بل ونجحت مصر في إغراق عدد من سفن الأعداء، في القناة، مما شل قدرة الأساطيل الفرنسية والبريطانية، من التقدم في قناة السويس، وهو ما ذكرته كافة المراجع العسكرية، بأنه كان “مفاجأة من العيار الثقيل”، للقوات الفرنسية والبريطانية، التي لم تضع في حساباتها، عند التخطيط، إمكانية إغلاق القناة أمامهم. وأمام ذلك التطور السريع في الأحداث، أصدرت الأمم المتحدة، يوم 7 نوفمبر 1956، قرارها بوقف إطلاق النيران، إلا أن بريطانيا لم تلتزم به، إلا يوم 8 نوفمبر، حيث كانت تأمل في التقدم نحو القنطرة، ولكنها فشلت.
وبدأت المقاومة الشعبية، في بورسعيد، عملياتها ضد الغزو البريطاني، فنجحت في خطف الضابط مور هاوس، ابن عمة الملكة إليزابيث، ملكة بريطانيا، كما نجحت في اغتيال الميجور وليامز، رئيس مخابرات القوات البريطانية، في بورسعيد، فضلاً عن العديد من العمليات الفدائية ضد القوات البريطانية، خلال هذه الفترة. وفشل العدوان الثلاثي على مصر، وأحبطت خطته، لأسباب عديدة، كان في مقدمتها بسالة الشعب المصري في التصدي له، وهو ما لم يكن يتوقعه الغزاة، إضافة لمعارضة الولايات المتحدة لهذا العدوان، من ناحية، وتأييد الاتحاد السوفييتي لمصر، من ناحية أخرى، الذي وصل لحد تهديده بالتدخل العسكري، لوقف العدوان، مع تنديد الأمم المتحدة بالعدوان ومطالبتها بانسحاب القوات المعتدية، وأخيراً، وليس آخراً، مساندة كل الشعوب العربية لمصر، ولقيادتها السياسية، متمثلة في الرئيس عبد الناصر، الذي زادت شعبيته، في مصر، والعالم العربي، باعتباره الزعيم الذي انتصر على ثلاث دول كبرى، بعد انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من بورسعيد يوم 23 ديسمبر 1956، وانسحاب إسرائيل من سيناء وقطاع غزة.
وهكذا أصبحت بورسعيد رمزاً للمقاومة الشعبية، بين دول العالم كله، وأصبح يوم 23 ديسمبر، من كل عام، عيداً لنصر بورسعيد، ولمصر، ولشعبها العظيم، لازلت احتفل به، شخصياً، على صوت الفنانة شادية تغني “أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد”، وعلى صوت كوكب الشرق أم كلثوم تشدو “لمصر عاد السلام يا نيل بعد الكفاح المجيد”. ومرت الأعوام والتحقت، في عام 1975، بكلية كمبرلي الملكية، بإنجلترا، فسنحت لي الفرصة الاطلاع على الصحف البريطانية، الصادرة أثناء حرب 56، فرأيت كيف هزت، هذه الحرب، العرش البريطاني، من خلال صحفهم القومية، التي وصفت “حرب السويس”، بأنها نهاية الأسد البريطاني، الذي لم يعد عجوزاً، فحسب، بل أصبح الأسد الذي فقد عرشه، أمام بسالة شعب بورسعيد، التي أزلت التاج البريطاني، وصارت تلك الحرب، وصمة عار في التاج البريطاني، لن يمحوها الدهر.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.