جلال حمام يكتب : الغنوشي (4) .. حرب باردة مع رئيس الدولة

ليست على ما يرام..المانشيت الرئيس الذي يمكن أن يُلخص علاقة زعيم حركة النهضة الإخوانية ورئيس البرلمان راشد الغنوشي،بالرئيس التونسي قيس بن سعيد، خلال الفترة الأخيرة، بعد أن أصبحت العلاقة، التي كانت هادئة في بداية المدة الرئاسية الحالية، يحوم حولها تنافس على احتكار المشهد وتداخل في الصلاحيات، ومناوشات متعددة أفضت إلى ما يشبه الحرب الإعلامية..
وأشار قيس سعيد، في خطابه بمناسبة المائة يوم الأولى لرئاسته الجمهورية، إلى وجود مؤامرات تحاك ضده وأطراف تعمل على عرقلته، وهي رسائل فسرها مناصروه بأن زعيم الإخوان هو المقصود بها، فيما يمكن تسميته بـ (حرب المواقع) بين رئيس البرلمان ورئاسة الجمهورية على اقتسام السلطة، في ظل تداخل الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث،رئيس الحكومة والبرلمان والجمهورية،التي أفرزها الدستور التونسي..
هذا الصراع بين الغنوشي وقيس بن سعيد خلق معسكرين في تونس، يتقاذفان السباب والشتم في المنابر الافتراضية والواقعية، بشكل يهدد بنية السلطة وتوازنات الحكم، وأصبحت المعارك الكلامية التي يخوضها أنصار المعسكرين بمثابة حروب (بالوكالة)، يستخدم فيها كل طرف أدواته السياسية والإعلامية للاستحواذ على مقاليد السلطة والتحكم في القرار الوطني..
ففي الوقت الذي وصف فيه أنصار بن سعيد، راشد الغنوشي بـ (الماسوني والمنافق والمُخاتل)، وتوعدوهبتحركات شعبية ضد سياسات الفشل الاقتصادي والاجتماعي لحكومات الإخوان، واتهموا حركة النهضة ومناصريها بعرقلة مسار الإصلاح في تونس، من خلال التشبث بالنظام البرلماني، داعين إلى تغيير نظام الحكم إلى نظام تكون فيه المجالس الإقليمية هي صاحبة السيادة والقرار، يرد بعض أعضاء الحركة في البرلمان باتهام بن سعيد بـ (العمالة إلى أنظمة أجنبية، وأنه دمية إيرانية).
ويتفجر الخِصام، بتصنيف مجلس شورى الإخوان قيس بن سعيد ضمن الخصوم الذين يجب تقزيمهم سياسياً، وقد دعا الغنوشي في اجتماعات داخلية لحزبه، إلى ضرورة تكثيف حملات التشويه ضد رئيس الجمهورية، على صفحات التواصل الاجتماعي، بتكثيف النقد حول أدائه في الرئاسة، والتركيز على ضعفه الدبلوماسي، وغيابه عن المؤتمرات الخارجية، مثلما حدثفي منتدى دافوس والقمة الأفريقية.. وتتعاظم المخاوف لدى العديد من الأحزاب السياسية، بأن يكون هذا الصراع مدفوعاً من قوى إقليمية، على غرار تركيا، بعد رفض قيس بن سعيد المطالب التي طرحها أردوغان خلال زيارته تونس،
وما أكدته مصادر أمنية من أن الزيارة كانتلتطويع القرار التونسي لتسهيل مرور الأسلحة التركية إلى المليشيات في ليبيا، خصوصاً أن وحدات الأمن تمكنت، بداية يناير الماضي، من حجز أسلحة وذخائر تركية الصنع كانت متوجهة إلى طرابلس.. وربما (تكون الأدوات الإخوانية في تونس تلقت تعليماتها من تركيا لعزل قيس بن سعيد وإضعاف سلطته، لجعل تونس ممراً إقليمياً للإرهابيين القادمين من إدلب السورية إلى طرابلس الليبية).
الملف الخارجي، من اختصاصرئيس الجمهورية بشكل حصري، ولا ينبغي لرئيس البرلمان التدخل في هذه الصلاحيات.. صحيح أن هناك ما يسمى بالدبلوماسية البرلمانية، لكن لا يوجد فعلياً برلمان في ليبيا، وحتى في حال وجوده، فإن العلاقات معه لا تشمل بحث الملفات والقضايا ذات الصلة بالعلاقات الدولية للبلدان.. إلا أن تحركات الغنوشي المُريبة، ومنها التحالفات الإقليمية للحركة الداعمة لجماعة الإخوان، ومنخرطة ضمن محورهم الذي يضم تركيا وقطر، تثير استياءً واسعاً في الأوساط التونسية، خصوصاً منذ لقائه أردوغان في ينايرالماضي، بصفته رئيساً للبرلمان التونسي، في حوادث تؤكد في كل مرة محاولات الحركة الإخوانية، الالتفاف على القرار السيادي للبلاد، ووضعه تحت وصاية المحور التركي القطري..
وثانياً، اتصال رئيس النهضة، مع الإرهابي الليبي خالد المشري، عميل قطر وتركيا، التي تكتمت عليه حركته الإخوانية، إلا أن بيان ما يسمى بـ(المجلس الأعلى للدولة الليبي) فضح أمر الغنوشي، بالقول إن رئيسه المشري تلقى مكالمة من الغنوشي، لبحث (ضرورة تفعيل مؤسسات المغرب العربي)، مع أن المشري ليس هو رئيس البرلمان الليبي وإنما رئيس هيئة استشارية لا صفة برلمانية لها، وهذا ما يُعَد مخالفاً للدستور التونسي وللأعراف الدبلوماسية المعمول بها.
ولا تعتبر المكالمة مع الإرهابي الليبي (المشري)، هي الأولى من نوعها في إطار الدبلوماسية الموازية للغنوشي، وإنما شكّلت زيارته لأنقرة، والاتصال الهاتفي الذي تلقاه من أردوغان، في أبريل الماضي، القطرة التي أفاضت كأس بن سعيد، المستاء من سطو رئيس البرلمان على صلاحياته، ومن المكالمة التي شكلت خرقاً للأعراف الدبلوماسية..
لذلك، فقد عقد قيس بن سعيد اجتماعاً تشاورياً تنسيقياً رفيعاً، حول الملف الليبي، لم يدعُ له الغنوشي.. شكل صفعة قوية للإخواني الذي أراد أن يكون لاعباً مهما في الملف.. اجتماع فائق الأهمية بالنظر إلى تطورات الأوضاع في الجارة الجنوبية، وكان من المفترض أن يتم في إطار مجلس الأمن القومي، غير أن ذلك كان سيستدعي حضور الغنوشي، بصفته عضواً في المجلس، وهو ما لا يريده سعيد، ولذلك اختار أن يكون الاجتماع (تشاورياً تنسيقياً)، حتى يكون الحاضرون فيه خاضعين لاختياره.. صفعة قوية فسرت الحملات الإليكترونية للذباب الإخواني التابع لحركة النهضة، والتي استهدفت، على مدى الأيام التالية، الرئيس التونسي، ووضحت كواليس المكالمة الهاتفية التي أجراها الغنوشي مع المشري، الرجل واسع النفوذ في طرابلس والحاكم الفعلي للتنظيمات الإرهابية والمليشيات المسلحة الناشطة فيها..
ثم قام قيس بن سعيد بتغيير مدير ديوانه المقرب من الإخوان، خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يعتبره مراقبون محاولة من الرئاسة التونسية تحصين قصر قرطاج ضد الاختراقات الإخوانية، كما حدث في عهد الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي.
وتوقع خبراء قانونيون تونسيون استمرار حالة الجفاء، والصراع السياسي بين الرئيس التونسي قيس بن سعيد، وحركة النهضة الإخوانية التي تمتلك الأغلبية في البرلمان.. وآخر المناكفات السياسية بين الجانبين تأتي مع محاولة الحركة السيطرة على المحكمة الدستورية المزمع تشكيلها، لعرقلة عمل الرئيس ومنعه من إبداء الرأي في المسائل الدستورية، واعتبروا أن الصراع حالياً يدور حول المحكمة الدستورية التي ترغب النهضة ـ التي يترأس زعيمها راشد الغنوشي مجلس النواب ـ في تكوينها حالياً لأهداف سياسية مشبوهة..
وتعتبر المحكمة الدستورية، العماد الدستوري، الذي يتكون من 12 شخصية، مهمتها حسم الخلافات ذات الطابع الدستوري بين السلطتين، التشريعية والتنفيذية، ويختار أربعة من أعضائها مجلس نواب الشعب، فيما تختار كل من رئاسة الجمهورية، والمجلس الأعلى للقضاء الشخصيات المتبقية.. هذا الصراع والخلاف حول تشكيل المحكمة بدأ منذ أيام الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، وظل مُعطلاً منذ الفترة البرلمانية السابقة (2014 ـ 2019)،وسيؤدي تشكيلها  حالياً إلى صدام جديد بين الغنوشي، وقيس بن سعيد شخصياً، لأن رئيس البرلمان يريد استغلال أغلبية حزبه لتعيين شخصيات موالية، وبالتالي عزل الرئيس عن إبداء الرأي في المسائل الدستورية،
إلا أن أنصار الرئيس قيس بن سعيد دعوا على شبكات التواصل الاجتماعي إلىضرورة إلغاء النظام السياسي الحالي (نظام برلماني)، وتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، لأنه من غير المعقول أن يكون لرئيس الجمهورية المنتخب صلاحيات ضعيفة، أمام برلمان مشتت حزبياً ومتصارع أيديولوجياً.. ويدعو عدد من القضاة لضرورة تحييد البرلمان من عملية انتخاب أعضاء المحكمة، ويتم انتخابها فقط من المجلس الأعلى للقضاء.
هي نيران صامتة على مستوى رأسي السلطة، ولكنها تأخذ أشكالاً عنيفة على مستوى القواعد الانتخابية لكل من قيس بن سعيد وراشد الغنوشي، ويعتبر تشكيل المحكمة الدستورية، مربط الفرس في الصراع السياسي، خاصة أن الدستور التونسي يحمل بين طياته فصولاً متداخلة، ولا تحدد الصلاحيات بشكل واضح بين رئاسة الجمهورية، ورئاسة البرلمان، والمحكمة الدستورية هي عنصر الحسم، وكل حزب يريد وضع أعضاء له بداخلها، للعمل وفق مصالحه، ولا يُستبعد أن ترشح النهضة حليفها السابق مصطفى بن جعفر لرئاسة المحكمة الدستورية، بعد أن كان رئيس المجلس التأسيسي، الذي تم في عهده صياغة دستورهم.. ونواصل حكايات الغنوشي مع خالد المشري، في الإسبوع القادم.
حفظ الله مصر وسائر بلادنا.. آمين.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.