لواء دكتور سمير فرج يكتب : الأصفر والبرتقالي في مصر

اللونان الأصفر والبرتقالي هما ألوان سيارات الإسعاف الجديدة التي دخلت مصر منذ عدة أعوام، علماً بأن وراء هذه القصة نجاح كبير، من المهم للبعض أن يعرفه، بدلاً عن سياسة جلد الذات، التي اعتدناها دوماً، وبدلاً عن الاكتفاء بالنظر إلى النصف الفارغ من الكوب، وعليه، فقد رأيت أن أعرض على سيادتكم، اليوم، تجربة نجاح مصرية، ستظل أمام أعيننا خلال السنوات القادمة.
بدأت القصة بعد أيام قليلة من وصولي لمحافظة الأقصر، محافظاً لها، وأثناء جولتي المرورية، ذات يوم، وجدت تجمعاً بشرياً كبيراً، أمام أحد الفنادق، فنزلت من السيارة متجهاً نحوه، لاستبيان أسبابه، فتبين أن أحد السياح كاد أن يغرق بحمام السباحة، فطلب له فندقه سيارة إسعاف، لنقله لأحد المستشفيات، وهنا كانت الصدمة … فعندما وصلت سيارة الإسعاف، رفض السائح، وأسرته، أن يتم نقله بها، والحقيقة أنني لا ألومهم في ذلك، فسيارة الإسعاف كانت في حالة متردية، يُرثي لها، لا تحوي سوى نقالة من القماش، بحالة سيئة، وأسطوانة أكسجين، فقط، أما المسعف فهو ذاته سائق السيارة، وقد كان يرتدي جلباباً، وشبشب، وهيئته لا توحي بشيء غير بأنه مستيقظ من النوم لتوه!
اتخذت اللازم لنقل المريض، على الفور، بسيارة خاصة، وهو ما كان أسلم الاختيارات المتاحة، في تلك اللحظة، ثم اتصلت، على الفور، بالدكتور حاتم الجبلي، وزير الصحة، آنذاك، وقصصت عليه ما رأيته بعيني، فأكد سيادته على تفهمه للموقف، وأبلغني بأن وزارة الصحة بصدد تنفيذ خطة لتطوير مرفق الإسعاف، على مستوى الجمهورية، وقد أوكل مسئوليتها للدكتور ناصر رسمي، الذي اتفقنا على أن اجتمع معه، في نفس الأسبوع في الأقصر. وبالتزامن مع ذلك، ولتفادي تكرار ذلك المشهد المخزي، الكارثي، فقد نسقت مع غرفة صناعة السياحة، لتمويل سيارتي إسعاف، مجهزتين على أعلى مستوى، من إنتاج الهيئة العربية للتصنيع، للخدمة داخل الأقصر، بينما قررت متابعة ملحمة تطوير مرفق الإسعاف، في مصر، عن كثب، بشكلٍ يومي.
قامت مصر، حينها، بالتعاقد على شراء حوالي ٢٠٠٠ سيارة، من ألمانيا، كدفعة أولى، تم تجهيزهم اعتماداً على الخبرة الألمانية، والبريطانية، في تجهيز سيارات الإسعاف، مع تطويعهم لمناسبة المستخدم المصري، كاشتراط أن يعمل الجهاز الإلكتروني باللغة العربية، وتم تسكين الأجهزة، والمعدات، الطبية داخل سيارات الإسعاف، الجديدة، وتصنيفهم طبقاً للحجم، والمسافات، والأطوال، بألوان مختلفة؛ فاختيرت سيارات الإسعاف، ذات اللون الأصفر، الأكبر نسبياً من حيث الحجم، للعمل على الطرق السريعة، تم تجهيز عدد منهم لإجراء العمليات الجراحية، المحدودة، بداخلها، في مناطق الكوارث والخسائر الكبرى، بينما السيارات، ذات اللون البرتقالي، الأصغر حجماً للعمل داخل المدن، بينما تم إضافة نوع ثالث لأسطول سيارات الإسعاف، عبارة عن سيارات أصغر حجماً، تناسب نقل اثنين من الأطباء، لمكان وقوع الحوادث، التي تستدعي وجود أطباء، قبل نقل المصابين إلى المستشفيات.
وبالتزامن مع الإعداد الفني لسيارات الإسعاف، كان الإعداد يجري على قدم وساق، لاختيار القوى البشرية اللازمة من المسعفين، والسائقين، فتم الاستعانة بشباب الإسعاف القدامى، وتعزيزهم بعناصر، جديدة، من حملة المؤهلات العليا، غير الأطباء، لتدريبهم، تدريباً مكثفاً، لمدة ٦ أشهر، على جميع عمليات الإسعاف، المعترف بها، والموثقة، في المناهج العلمية البريطانية، كما تم إرسال مجموعات أخرى من الشباب الجدد إلى إسبانيا للحصول على تدريبات إضافية. صرح الدكتور ناصر رسمي، حينها، أن أكثر ما تم التركيز عليه في مرحلة التدريب، بخلاف الشق العلمي، هو الانضباط، الذي وصل لأن تضاهي منظومة الإسعاف، أحد معسكرات أو كتائب القوات المسلحة، في انضباطها. ولم تغفل الخطة، ضرورة حسن، وملاءمة المظهر، فاختير الزي المقرر للمسعفين، والسائقين، على غرار الزي الإنجليزي لأفراد طاقم الإسعاف، مع إجراء بعض التعديلات عليه، ليناسب متطلبات الأفراد المصريين، وتم تنفيذ تلك الملابس في مصانع المهمات، التابعة للقوات المسلحة المصرية، بنفس الكفاءة، والجودة، البريطانية.
وللاستفادة من المعطيات التكنولوجية الحديثة، في حل أزمة استدعاء سيارات الإسعاف، تم إنشاء مركز لتلقي طلبات الإغاثة “Call Center”، في القرية الذكية، وآخر في محافظة الأقصر، لخدمة جنوب مصر، إلا أنه لم يكتمل بعد أحداث يناير 2011، ومغادرتي لمحافظة الأقصر. ولأول مرة في مصر، تم تطبيق نظام التتبع الآلي “Automated Tracking System”، الذي يتيح لمركز العمليات، تحديد موقع كل سيارة إسعاف في مصر، وتحركها، وخط سيرها، وحتى سرعة السير، بهدف، أساسي، لمتابعة كفاءة المنظومة، وهدف، إضافي، لمنع استخدام سيارات الإسعاف، في مهام خاصة، بالأفراد العاملين عليها.
وبوصول سيارات الإسعاف، الجديدة، إلى مصر، واكتمال تدريب أطقمها، بدأت في مصر، لأول مرة، إعداد خريطة للإسعاف، وكيفية السيطرة على خطة سير هذه السيارات، في حالات الكوارث، وهو ما شهدت تطبيقه، عملياً، في الأقصر، عندما رأيت تحرك جميع سيارات الإسعاف، من كل نقاط تمركزها، وتوجهها لمحافظة قنا، وعلمت أنها تم استدعاؤها لاسلكياً، بعد اندلاع حريق ضخم في أحد المصانع هناك. كما وضحت، هذه الخريطة، توزيع السيارات داخل جميع المحافظات، لتكون على استعداد للتدخل الفوري، سواء على الطرق السريعة، أو بجوار المصانع عالية الكثافة البشرية، أو بجوار الفنادق الكبرى، محققة، بذلك، كفاءة، وسرعة الخدمة اللازمة. وللإجابة عن السؤال البديهي، عما تم مع قدامى العاملين في هيئة الإسعاف، بعدما تقرر الإبقاء على الشباب منهم، في المرفق المتطور، فقد تم توزيعهم على المستشفيات المركزية، للاستفادة من خبراتهم الطبية المتراكمة عبر السنين.
لذا، عزيزي القارئ، تذكر وأنت تسير على الطرق السريعة، اليوم، وترى سيارات الإسعاف ذات اللون الأصفر، أو ذات اللون البرتقالي داخل المدن، تذكر بفخر أن مصر، خططت، ونفذت، نظاماً جديداً، متطوراً، للإسعاف لخدمتك، يضاهي أرقى مستويات الخدمة الطبية في العالم، لنثبت أننا في مصر قادرون على التخطيط، والتنفيذ، لتطوير هذا البلد العظيم.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.