جلال حمام يكتب : عودة الحق الفلسطينى.. رهان مصر الدائم

بعد أقل من شهر تقريبًا، من زيارة الرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس، وما صاحبها من صخب عالمى، بدأت أولى الخطوات الفعلية على الطريق الصعب «طريق السلام»، وكان مؤتمر «مينا هاوس» بالقاهرة، فى ١٥ ديسمبر ١٩٧٧، أول محاولة مصرية لجمع الأطراف العربية والدولية إلى طاولة المفاوضات، بهدف التحضير والاتفاق وتوحيد الجبهة العربية، قبل الذهاب إلى مؤتمر جنيف الداعى إلى تحقيق السلام فى الشرق الأوسط، والذى كان سيناقش تطبيق إسرائيل قرار الانسحاب من الأراضى العربية حتى حدود ١٩٦٧، ومن بينها الأراضى الفلسطينية وتقرير حق عودة اللاجئين.
أى أن الاجتماعين، سواء مينا هاوس أو جنيف، كانا يدوران حول انسحاب إسرائيل من الأراضى الفلسطينية ومحاولة استعادة حقوق الشعب الفلسطينى.. فى مينا هاوس تمت دعوة كل من الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، إسرائيل، الاتحاد السوفيتى، الأردن، سوريا، لبنان، منظمة التحرير الفلسطينية، فلم يحضر سوى الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، إسرائيل، وقد أبقى الرئيس السادات- الذى اتهموه بالتخلى عن الفلسطينيين وإخراج مصر عن دورها فى قضيتهم ــ علم فلسطين على طاولة المفاوضات، وبقى كرسيهم خاليًا أمام الإسرائيليين والأمريكان!، واستمر فى التحدث باسمهم والمطالبة بتطبيق القانون الدولى الذى يُلزم إسرائيل بالانسحاب من أراضيهم!.. وعندما تبحث عن الفلسطينيين فى ذلك الوقت، وأين كانوا؟ وما دورهم؟.. تجد أن مندوب منظمة التحرير الفلسطينية لدى الأمم المتحدة، زهدى الطرزى، كان يجتمع مع بعض العرب وممثلى منظمة عدم الانحياز، مطالبًا إياهم بإعلان رسمى لرفض المسعى المصرى الجديد فى إطار السلام!.. بينما كان ياسر عرفات مع صدام حسين والعقيد القذافى يصدرون البيانات ويشجبون ويستنكرون، ويهاجمون مصر والسادات، ويناقشون إخراج مصر من الجامعة العربية ونقل مقرها إلى تونس.
وعندما وقّعت مصر اتفاق السلام مع إسرائيل فى كامب ديفيد، خرجت الصحف الخليجية بمانشيت، لا يمكن نسيانه، عبارة عن كلمة واحدة، بالبنط العريض: «وقعوها!» وهى كلمة تنطوى على تورية، كما يقول أهل البلاغة فى اللغة العربية، معناها المباشر، هو توقيع اتفاقية السلام، أما المعنى المقصود فهو أن مصر أوقعت بالقضية الفلسطينية.. وبعد مرور السنوات وضياع الفرصة، أدرك الفلسطينيون والعرب، أنه لا مفر إلا من سلوك الطريق الصعب.. واستمر الرئيس الفلسطينى الراحل، ياسر عرفات، يحاول منذ عام ١٩٩٣، فى اتفاقيات عديدة ولقاءات كثيرة، منها أوسلو ١ وأوسلو ٢ واتفاقية شرم الشيخ وغيرها، وكان كل ما أسفرت عنه جهوده فى كل هذه السنوات هو الوصول إلى «كامب ديفيد»، لكن عام ٢٠٠٠.. وقتها جسد رسام الكاريكاتير الراحل محمود كحيل، الحالة العربية، فى كاريكاتير بمجلة «المجلة» السعودية التى تصدر فى لندن، وضع فيه إطارًا معلقًا على جدار، يضم صورة للسادات يدخن غليونه بكبريائه المعهودة، بينما يتسلل مجموعة من الزعماء العرب، مرورًا من تحت الصورة، وقد أحنوا رءوسهم، خجلًا من الرئيس المصرى، الذى جاء بالسلام إلى حجورهم، فرفضوه.
أذكر ذلك، ونحن بصدد الحديث عن خطة ترامب للسلام التى أعلنها مؤخرًا ومعه رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، فى غياب تام للطرف الأصيل فى قضية الصراع فى الشرق الأوسط، وهم الفلسطينيون، ردًا على الذين يزايدون على دور مصر المحورى فى القضية الأهم فى العالم العربى، والتى دفعت فيها من دماء أبنائها وأموال شعبها، ما أخر التنمية فيها لعقود طويلة، وما زالت تتحمل مسئولياتها تجاه القضية المصيرية بدأب وحرص شديدين على الحقوق الفلسطينية، ومنعًا لها من الضياع التام.. وقد كشف جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأمريكى، فى حواره التليفزيونى مع عمرو أديب، بداية هذا الأسبوع، عن أن الرئيس عبدالفتاح السيسى قال له، فى أول لقاء بينهما «إن أمريكا لن تستطيع حل مشكلة فلسطين، حتى يحصل الفلسطينيون على ما يستحقونه، وما يريده الشعب الفلسطينى، هو دولة فلسطينية.. هذا شىء مهم لهم وللعالم العربى كله».
لقد ركزت الولايات المتحدة، خلال سنوات الوساطة فى محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، على رغبات إسرائيل وتعنتها، ومنح أولوية خاصة لأمنها، بالإضافة إلى أن الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين قبلوا فكرة أن السلام يتطلب قيام دولة فلسطينية جنبًا إلى جنب مع إسرائيل، حتى وإن كانوا غير مستعدين للسماح لها بسيادة كاملة على قدم المساواة.. صحيح أن السلام فى الشرق الأوسط مطلب لا حياد عنه، وكلنا ننشده دون إفراط أو تفريط، ولكن دائمًا ما تريد إسرائيل سلامًا تصنعه، يحقق لها مطالبها بغض النظر عن مطالب الطرف الآخر، وهو ما يعوق أى مبادرة للسلام فى المنطقة.. كما جاءت خطة ترامب الأخيرة، أو كما يسميها البعض «المولود المشوه»، لتقرر من جانب واحد، مصير كل المسائل الجوهرية المطروحة للمفاوضات، بما ينسجم تمامًا مع موقف الحكومة الإسرائيلية، مخالفًا بذلك قناعاته التى أفصح عنها شخصيًا، من أن «أى تسوية يجب أن تكون ضمن ما تتوافق عليه أطراف النزاع الرئيسية والمعنية بالتطبيق، ولا يجب أو يمكن أن يتم إملاؤها من قبل أى جهة خارجية»!، ولذا كانت القطيعة الفلسطينية لإدارة ترامب منذ أواخر ٢٠١٧، لأنها رأت أن الرئيس الأمريكى وسيط لا يمكن الوثوق به أو الاطمئنان إلى موضوعيته، بعد أن قرر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، واعترافه بأحقية إسرائيل فى مرتفعات الجولان السورية.. وسبق لوزير خارجيته أن صرح بأن «الولايات المتحدة تخلت عن موقفها المستمر منذ أربعة عقود، باعتبار المستوطنات اليهودية فى الضفة الغربية لا تتفق مع القانون الدولى»، لتكون خطة ترامب الأخيرة ثالثة الأثافى، لأنها جاءت بمعزل عن المجتمع الدولى وعن مبادئ الأمم المتحدة وقراراتها، ولم تراع الحق الفلسطينى، وبذلك فإنها تفتح صفحة جديدة فى سجل تمرد سياسات الدول الكبرى وخروجها السافر على المواثيق الدولية، وتشكل بيئة مواتية للفوضى وأرضية مناسبة للتطرف.
من حق نتنياهو، والحال هكذا، أن يحتفى بخطة ترامب، ومن حق الرئيس الفلسطينى محمود عباس، أيضًا، أن يرفض خطة الإذعان.. ويبقى موقف وزراء الخارجية العرب القوى برفض الخطة الأمريكية ــ الإسرائيلية، وتأكيدهم أن مبادرة السلام العربية عام ٢٠٠٢، هى الحد الأدنى المقبول عربيًا لتحقيق السلام، وتحذيرهم إسرائيل من تنفيذ الخطة بالقوة، متجاهلة قرارات الشرعية الدولية، وتحميل الولايات المتحدة وإسرائيل المسئولية الكاملة عن تداعيات هذه السياسة.. ويظل صوت العقل المصرى، الواعى بـ«أهمية التوصل لتسوية القضية بما يعيد للشعب الفلسطينى كامل حقوقه المشروعة، من خلال إقامة دولته المستقلة، ذات السيادة على الأراضى الفلسطينية المحتلة».. ويبقى لى أن أذكر بالواقعة التى حدثت بين هنرى كيسنجر والرئيس السادات، حينما تحادثا حول مفاوضات سلام مع إسرائيل، وكان ذلك قبل حرب ٧٣، ساعتها قال كيسنجر للسادات: «ليس لديك ما تفاوض به».. ففهم السادات الرسالة، وكان انتصار السادس من أكتوبر، الذى أخضع العدو، ليسلك مع السادات، الطريق الصعب.. فهل نحن بانتظار «يوم غضب»؟.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.