محمود حبسة يكتب : إيزادورا تستغيث !

تمتلك مصر العديد من المقومات البشرية والطبيعية التي تجعلها واحدة من أغنى بلاد الدنيا مع كل هذا التاريخ الممتد مع امتداد وسريان الزمن، دولة هي مهد الحضارة ومهبط الوحى استحقت أن تكون كنانة الله في أرضه فحباها الله بكل هذه المقومات وكل هذه العطايا التي لا مثيل لها في العالم كله، جيل بعد جيل تقدم قصص للبطولة والفداء والوطنية والعلم والعمل والبناء والحب والتسامح، رسالة دأبت على تقديمها عبر كل العصور التي مرت بها منذ العصر الفرعوني مرورا بالروماني والقبطي وانتهاء بالعصر الإسلامي وفي كل المجالات تؤكد من خلالها أنها السباقة دائما وأنها مصر التي لا مثيل لها، وتمضى الأيام ونكتشف في كل يوم أننا لم نحسن بعد استغلال ما تحتويه بلادنا من ثروات وكنوز وأننا لم نزح الستار بعد عن كل كنوزها وثرواتها.

في واحدة من محافظات مصر استحقت هي الأخرى وعن جدارة لقب عروس الصعيد تتجسد كل هذه المعاني وكل الدلائل والشواهد التي تبرهن عليها وتؤكدها، في محافظة المنيا يقف الزائر المتجول بين ربوعها وأسرارها مشدودا منبهرا مأخوذا بكل هذا السحر وكل هذا الجمال، تتجسد عبقرية الإنسان المصري القديم والحديث وعبقرية المكان أيضا حيث هذه الحالة الفريدة التي تجسد تاريخ مصر كله وتبرهن على عظمة الإنسان المصري بل وتجسد فكرة تلاقي الحضارات ومسارات التاريخ حيث تتلاقى جميعها عند هذه البقعة الغالية من أرض مصر، ولا جدال أن الثلاثة أيام التي قضيتها الأسبوع الماضي في محافظة المنيا لم تكن كافية للاطلاع واكتشاف كل مقومات وكنوز هذه المحافظة الجميلة المبهرة ولكنها كانت كافية لتبرهن كم نحن مقصرين في حق بلدنا وفي حق أجدادنا وفى حق الأجيال القادمة من أبنائنا وأحفادنا، كم غرقنا في تفاهات وترهات وصراعات وهمية بعيدا عن مسارنا وهدفنا، بعيدا عن العمل الجاد الدؤوب لاستثمار كل هذه المقومات والبناء عليها من أجل مصر ورفعتها وتأكيد ريادتها ومن أجل حياة كريمة لكل المصريين.

في المنيا ثروات هائلة وقصص للبطولة والحب والتضحية والفداء تستغيث بنا تدعونا أن نمزق عنها ستائر النسيان التي ضربت حولها وأن نطوي عنها صفحات الإهمال، تدعونا أن نخرجها من الظلمات إلى النور أن نتركها تحكي للعالم كيف كانت مصر سباقة دائما وكيف كان رجالها ونساؤها، قصص لو أعدنا كتابتها لو قلناها بلغات العالم أجمع لضاقت شوارع مصر من كثرة السياح لما وجد بها فندقا واحدا غير ممتلئ لحصدنا المليارات من الدولارات سنويا، ماذا لو ذكرنا للعالم قصة حب إيزادورا أول شهيدة للعشق في التاريخ، تلك الفتاة الجميلة ذات التسعة عشر ربيعا التي شهد أحداث قصتها العام 120 قبل الميلاد، ابنة الحاكم التي أحبت أحد أبناء الشعب أحد حراس والدها، وأصرت أن تتزوج منه ورفضت كل النبلاء والأمراء ومع إصرار والدها على رفضه وتزويجها من غيره على مدار ثلاث سنوات كان الخيار الوحيد أمامها أن تلقي بنفسها في النيل ليسجل النهر الخالد قصة حبها وشعر والدها بالندم فكتب مرثيتين على جدران مقبرتها ينعيها فيهما وما كان من حبيبها إلا أن يأتي لها كل يوم ومع كل مساء ليضيء الشموع حولها حتى لا تعيش في ظلام.

ومن العصر الروماني إلى العصر الحديث وفي نفس المكان في منطقة تونا الجبل حيث منزل العالم الأثري الدكتور سامي جبرة وهو المنزل الذي تم تصوير فيلم دعاء الكروان فيه عن قصة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حيث يلتقي التاريخ مع الفن والأدب، ومن تونا الجبل إلى بني حسن حيث الطبيعة الساحرة للنيل الخالد بكل سحره وبهائه والجبال الشاهقة التي حفر فيها الفراعنة العظام قبورهم من أسر متعددة، حكام الأقاليم مثل خيتي من الأسرة السادسة عشرة 2160 قبل الميلاد وخنوم حتب من الأسرة الثانية عشرة، في قلب الجبل مقابر تزيد مساحة الواحدة منها على مائة متر وبعمق يصل إلى أكثر من 30 مترا، على جدرانها لوحات فنية رائعة مازالت ألوانها بهية تحكي كيف كان الفراعنة سباقين في كل شيء بل كيف سبقوا العالم في تنظيم مسابقة الألعاب الأولمبية عام 1500 قبل الميلاد، هناك على جدران المقابر تحكي الصور واللوحات الفنية كيف كانت المسابقات تقام في كل الألعاب الرياضية من سباحة إلى عدو إلى ركوب الخيل إلى المصارعة إلى الوزن وشد الحبل وكان المحكمون يأتون لها من كل مكان في مصر.

ومن تونا الجبل وبني حسن إلى منطقة أخرى تجسد مرحلة متقدمة من تاريخ مصر وهي قرية البهنسا التي تحكي كيف كان فتح مصر وكيف كانت هذه المنطقة تحديدا مستعصية على القائد عمرو بن العاص الذي طلب مددا من الخليفة عمر بن الخطاب فأمده بألفين من المقاتلين منهم سبعون ممن حضروا غزوة بدر استشهد أربعون منهم خلال المعركة وهناك العديد من المقابر التي تحمل أسماءهم بما يعني أنها أصبحت البقيع الثاني، وعلى مقربة منهم أضرحة السبع بنات اللاتي شاركن في الحرب واستشهدن فيها وهو ما يؤكد دور المرأة المصرية منذ القدم وأنها أبدًا لم تكن منزوية داخل بيتها وأنها لم تنعزل عن الحياة العامة وعن القيام بدورها، وإلى الشهداء من البدريين وغيرهم توجد في نفس المكان شجرة مريم التي استظلت بظلها العذراء ومعها ولدها أثناء رحلتها إلى مصر هربا من بطش الرومان تقف شاهدة على تلاقى الأديان.

ومن تونا الجبل وبني حسن والبهنسا وتل العمارنة حيث مقر حكم أخناتون وأول مكان يشهد عبادة التوحيد إلى العصر الحديث حيث تتجلى صورا أخرى لإبداع المصري الحديث من خلال محور سمالوط الذي يتكلف مليارًا و449 مليون جنيه والذي يتكون من 30 كوبري علوي و17 نفقا ويربط غرب النيل بشرقه وهذا التطوير الرائع لكورنيش النيل حيث تمتد الحدائق والمساحات الخضراء والنافورات مع امتداد شاطئ النهر ما يعكس جهدا كبيرا قام به محافظها اللواء قاسم حسين وهو ما يدعونا لتسجيل الإعجاب والشكر خاصة أن الكورنيش وبكل هذا الجمال متاح لأبناء المحافظة وزوارها دون تمييز أو أي أعباء مادية، يبقى أن المحافظة تحتاج جهدا أكبر من كل المعنيين بالدولة وكل الجهات المسؤولة لاسيما وزارتي الآثار والسياحة لوضعها على خريطة السياحة العالمية لأنها جديرة وأهل لذلك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.