محمد نبيل محمد يكتب : قناة السويس العبور الدائم والتدخل المستحيل (٣٠)
الوساطة الأمريكية ودروها فى التفاوض للجلاء عن مصر

بدأ دور التفكير في التفاوض بين البريطانيين والمصريينبعد الانتهاء من توقيع الاتفاقية بشأن الوضع في السودان وكان هذا التفكير نابعا من الطرفين في وقت واحد معتمدا فيه كل منهما على نفسه نظرا لما لاحظته كل منهما في موقف الولايات المتحدة.
فمصر رأت فيها الموقف المتميع غير الواضح وربط تعاونهما معا بمسألة الأحلاف العسكرية في المنطقة فأعلنت موقفها فيها سبق أن عرضناه من تصريحات ومذكرات.
أما بريطانيا فقد شاب علاقتها بها شيء من الشك وربما الحقد عليها، فهي التي تأخذ مكانها في الشرق بعد تقلص مكانها فيه بالإضافة على أن معاهدة السودان في نظرها كانت إجحافا بحقها أرادت أن تثأر له والذي يهمنا هنا هو إظهار نية البريطانيين بالنسبة للأمريكيين الذين أرادوا ألا يبدوا عن الساحة مهما كانت الظروف ففي تقييمهم للموقف بالنسبة للأمريكيين رأوا أن أخر ما سيواجههم في مفاوضاتهم المزمعة هو دور السفير الأمريكي في القاهرة لأنه في نظرهم سبق أن أضر بهم كثيرا من جراء تدخلاته عندما أراد أن يلعب دور الوسيط بين الطرفين وأشاروا إلى أنه كان يجب أن يكون في جانبهم كحليف.
وأبدوا خشيتهم منه نظرا لعلاقاته بالمصريين وأنه قد تورط أكثر من مرة فأعلن المصريين بمطالبنا الحقيقية في كل مسألة وكان هذا يسهل على مصر أن يرفضوا ما تقدم به إليهم ولهذا فإن من الحيوي إذا أريد لمفاوضاتنا المقبولة مع مصر أن تنجح أن تقوم مستر دالاس وزير الخارجية الأمريكية بإخطار سفيره في القاهرة بأن عليه إذا لم يستطع مساعدتنا أن يقفل فمه ويصمت ومهما كان ما يفعله الأمريكيون وما يقولونه بصدد المفاوضات مع مصر فإننا لسنا على استعداد أن نعطي كثيرا للمصريين.
أما مصر فكانت في إعدادها لهذه المفاوضات قد أعلنت شروطها:
أولا: الجلاء غير المشروط.
ثانيا: عدم استعداد مصر لمناقشة أية منظمة للدفاع المشترك.
ثالثا: الاحتفاظ بالمعدات العسكرية والجوية الموجودة في قاعدة القناة.
رابعا: إصرار مصر على حقوقها والمستمدة من حق الشعوب الطبيعي في الحرية والاستقلال والمستندة إلى ميثاق الأمم المتحدة.
إلا أنه رغم تخوف الطرفين من الوجود الأمريكي في دائرة التفاوض فقد تقرر أن يبقى السفير الأمريكي جيفرسون كافري في مصر حتى يتم تسوية المسائل المعلقة بين الطرفين رغبة في استقرار الحالة في مصر والشرق الأوسط بصفة عامة وصرح بأن جلاء القوات البريطانية عن منطقة السويس نزولا عن إرادة المطالب الوطنية والتي لم يعد في مقدور أي دولة مهما كانت قوية تجاهلها لأن صرخة الشعب مهما كان مغلوبا على أمرة تبقى مدوية بقوة فلابد من الإصغاء إليها والعمل بما ندى به خصوصا في المرحلة الدولية الحاضرة التي تمر بظروف دقيقة للغاية.
وفي نفس الفترة نرى أن الرئيس الأمريكي يتخطى هذه المواقف ويرسل مباشرة إلى محمد نجيب في 24 مارس 1953 مذكرة مطولة جاء فيها:
أكتب إليكم يحدوني الأمل الأكبر بأن المباحثات بين حكومتكم وبين المملكة المتحدة حول مسائل ذات أهمية كبرى يمكن أن تبدأ في وقت مبكر إن شعب الولايات المتحدة قد أدرك بوضوح أكبر مما في أي وقت مضى أهمية الوفاق والقوة في الشرق الأدنى بالنسبة له وأن حكومة الولايات المتحدة لتقف على أهمية الاستعداد لمساعداتكم وحكومة الولايات المتحدة لم تراودها في أي وقت من الأوقات فكرة الاشتراك المباشر في هذه المباحثات إلا تلبية لرغبتكم وأؤكد لكم أن هذه الحكومة والشعب الأمريكي يفهمون ويقدرون الأماني الطبيعية لشعب مصر في التمتع بالسيادة التامة على أراضيه وكذلك أحطت علما بحالة الرأي العام في بريطانيا حيث تجابه الحكومة مشكلة عسيرة وأعتقد اعتقادا جازما أن الحكومة البريطانية تنوي نية صادقة في الاستجابة لمطالب مصر الأساسية.
وبعد هذه العبارات المشجعة يعود فيلمز إن الشعب البريطاني يريد أن يطمئن إلى أنه لم ينجم فراغ عسكري وأن تسهيلات القاعدة الباهظة التقنيات يمكن أن يستخدمها العالم الحر على الفور في أي أوقات الأزمات وأن مصر نفسها سوف تقف عسكريا مع العالم الحر ضد أي عدوان شيوعي محتمل وبوسعي أن أتفهم هذا الموقف كما أني على يقين أن بوسعي تفهمه لأن غرضه يتضح إذا كان لنا أن نقاوم الهجوم أو نواجهه.
فهو هنا يدخل مدخلا منزلقا إلى مسألة الدفاع المشترك بأسلوب تمهيدي ينتهي إلى قوله ورغبة أمريكا في هذا الموقف هي أن يختفي سوء التفاهم الطويل الأمر بين صديقين وأن يحل محله ترتيبات تقوم مصر ف ظلها كشريك متكافئ بدورها الرئيسي مع أعضاء العالم الحر ضد أي عدوان شيوعي محتمل وبوسعي أتفهم هذا الموقف كما أني على يقين أن بوسعي تفهمه لأن غرضه يتضح إذا كان لنا أن نقاوم الهجوم أو نواجهه.
فهو هنا يدخل مدخلا منزلقا إلى مسألة الدفاع المشترك بأسلوب تمهيدي ينتهي إلى قوله ورغبة أمريكا في هذا الموقف هي أن يختفي سوء التفاهم الطويل الأمر بين صديقين وأن تحل محله ترتيبات تقوم مصر في ظلها كشريك متكافئ بدورها الرئيسي مع أعضاء العالم الحر الآخرين في بناء دفاع فعال بمنطقتكم ولم يخطط أي لأي تنظيم دفاعي لكي يطلب من مصر أن تبدي موافقتها عليه مقدما وأن أملي لكبير في أنكم بعد أن يتم الاتفاق المبدئي بين مصر والمملكة حول الجلاء وصيانة قاعدة القناة في المستقبل سوف ترغبون على الفور في مناقشة الدفاع عن الشرق الأوسط إنه من مصلحتنا جميعا أن نرى تخطيطا للدفاع المشترك بين دول المنطقة.
فلم ينس الرئيس مآرب بلاده في تشكيل منظمة دفاع عن الشرق الأوسط في غمرة دوره في التوفيق وتحديد إطار التفاوض بين الطرفين بل وحدد لها موعدا هو بعد الاتفاق على المبادئ الرئيسية وهو ما أسماه الاتفاق المبدئي وليس بعد إتمام عملية الجلاء كانت مصر تطلب.
من أجل هذا بادر محمد نجيب وأرسل رده عليه في 10 أبريل 1953 مشيرا إلى ضرورة الجلاء بصفة أساسية عن الأرض المصرية ثم بعد ذلك يأتي دور التفكير في أمر الدفاع المشترك فقال إن أمن واستقرار وقوة منطقة الشرق الأوسط من أهدافه الأساسية وأشار إلى أن الحكومة الأمريكية لعبت دورا حسنا في سبيل الوصول إلى اتفاق بشأن السودان.
ثم قال إنه طالما بقيت قوات بريطانية مسلحة في الأراضي المصرية فإن الفراغ العسكري في الشرق الأوسط سيستمر وبجلاء القوات البريطانية وضمان صيانة القاعدة تكون صداقة وتعاون الشعب أكبر مقاومة ضد العدوان من وجود القوات البريطانية.
ولقد كان لهذين الخطأين آثارهما ف أروقة السياسة في الشرق الغرب ففي الغرب بدأت الولايات المتحدة تهتم أكثر بدفع عملية التفاوض بين مصر وبريطانيا وسافر أنتوني إيدن وزير خارجية بريطانيا للقاء دالاس في واشنطن للتنسيق في العمل والمواقف وتحديد إطار المفاوضات على الأسس التي تقدمت بها مصر وأن دور أمريكا سيكون في المشاركة خارج أروقة التفاوض وتشترك إذا ما طلب منها ذلك على أن يكون الطلب بداية منمصر.
كما كان دالاس يجمع كل المعلومات حولت الموضوع بل وأبدى استعداده للمشاركة وقد تحفز لذلك وظهر هذا بلا شك في زيارته للمنطقة في 11 مايو عندما توقفت الرحلة الأولى من المفاوضات على نحو ما سنرى مما يشير إلى حرض الولايات المتحدة على إنهاء المفاوضات والوصول إلى النتائج ولعل موقف الاتحاد السوفيتي من المنطقة المنخس في ظهرها للإسراع في هذا الشأن.
أما النشاط الأمريكي في القاهرة فكان على أشده فالسفير الأمريكي كان على اتصال دائم بالمسئولين في وزارة الخارجية مصر ليدرس طريقة لدفع عملية المفاوضات بمحاولته إقناع المصريين بوجهات النظر الأمريكية كما فتحت أبوابها في واشنطن لامتصاص غضب المصريين فإنه في داخل الولايات المتحدة نرى السفير المصري ولم يكن قد قدم أوراق اعتماده في بعد- يجمع في منزله أقطاب وزارة الخارجية الأمريكية ممن اختصوا بمسائل الشرق الأوسط في اجتماع ظل لمدة أربع ساعات من أجل بسط فكر مصر وموقفها قبل أن يجتمع السفير بوزير الخارجية الأمريكي واستطاع أن يثير الأمريكيين ضد سيطرة بريطانيا على أفكارهم تجاه مصرونجح في ذلك في لندن وأخرى في واشنطن دون أن تتاح لمصر كطرف آخر أية فرصة لعرض وجهة نظرها وأن مستر إيدن كسب الجولة الأولى تماما ونجح في حمل أمريكا على تبني وجهة النظر البريطانية إلى أبعد الحدود.
وفتح الأمريكيون صدورهم للسفير المصري ليشرح ضرورة أن تكون لأمريكا في الشرق الأوسط سياسة متحررة من سيطرة الإنجليز الذين يعانون من مركب النقص بسبب ضياع الجزء الأكبر من الإمبراطورية ونزوحهم مرغمين عن المرتبة الأولى بين دول العالم الأمر الذي يجعلهم يتشبثون بما لا يجوز التشبث به.
وأوضح السفير المصري أم مصر ليست شيوعية وأنها لا تريد أن تصبح شيوعية وأضاف أن مشروع الدفاع المشترك رفض من جميع الأحزاب ولا يمكن أن يكون النظام الحاضر أقل وطنية عن النظام الماضي كما أن الشعب يرى في هذا المشروع استمرار للاحتلال البريطاني في المكروه تحت ستار جديد، وأن مصر بدأت حربا مع خرافة الفراغ العسكري متأكدين أن هنا الفراغ العسكري متأكدين أن هذا الفراغ موجود وسيظل موجودا ما دام الإنجليز موجودين في قاعدة السويس.
هكذا فتحت الولايات المتحدة صدرها للإعلام المصري وإن كان محدودا وفي شخص السفير حتى توائم بينه وبين ما أعطته لبريطانيا من خلال زيارة وزير الخارجية البريطاني إليها ومباحثاته مع دالاس ثم زيارة دالاسللندن في تلك الفترة من أجل هذا الغرض.
على أية حال كانت الولايات المتحدة وقد وضعت مصالحها في المنطقة في المرتبة الأولى وقد جعلت من نفسها قلب ميزان ولو في الظاهر بين الطرفين المتصارعين بهدف دفع عملية المفاوضات وتحديد موعد لها في أقرب وقت على أساس ما أسمته روح الصداقة والود ونجمل إطار عملها في تلك المرحلة في:
أولا: امتصاص غضب الطرفين المتنازعين والعبور بهما فوق مرحلة الشك في نواياها هي: وذلك بالاجتماع بهما سواء في لندن أو في واشنطن أو في القاهرة.
ثانيا: دفع عملية الإعداد للمفاوضات بكل الوسائل الممكنة وذلك بتذليل الصعوبات التي تفرضها وإظهار حسن النوايا بينهما.
ثالثا: عرض خدماتها وإعلان نيتها في الاشتراك في المفاوضات إذا ما رأت مصر ذلك وأنها لم تحظ بالاشتراك المباشر في مائدة التفاوض فإنها ستظل شريكا من الخارج يراقب الأحداث ويصلح ذات البين إذا ما دعا الأمر ذلك.
رابعا: وعد مصر بتقديم المعونات اللازمة بعد أن تصل المفاوضات إلى مرحلة واضحة وإيجابية أي أنها علقت المعونات على جهد مصر في هذا الشأن.
خامسا: قبلت تأجيل التفكير في مسألة الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط إلى ما بعد الدخول في الموافقة المبدئية على الجلاء وأن كانت مصر قد أبدت عدم رغبتها في تنفيذ هذا.
وهكذا تبلور موقفها ووضح كشريك فعال في عملية التفاوض بقي أن نشير في عجالة إلى موقف العرب في بداية المفاوضات وهو بلورة لموقفها السابق على طول مرحلة الإعداد لها.
ونستكمل فى القادم ان شاء الله تأييد الجامعة العربية