محمد يوسف العزيزي يكتب: “فنزويلا على صفيح ساخن: صراع يربك معادلات الشرق الأوسط

في لحظة تاريخية ترتجّ فيها توازنات القوى العالمية وتتبدّل فيها ملامح الخرائط السياسية بسرعة غير مسبوقة، يجد العالم نفسه أمام أزمة جديدة تتشكل بعيدًا في أمريكا اللاتينية، لكنها تحمل من التعقيد ما يجعل تداعياتها قابلة للوصول إلى الشرق الأوسط مباشرة.
فالتوقيت السياسي بالغ الحساسية، والملفات الدولية مشتعلة من غزة والبحر الأحمر إلى أوكرانيا، بينما تسعى القوى الكبرى إلى تثبيت مواقعها في صراع طويل على النفوذ والطاقة. وفي قلب هذا المشهد تبرز فنزويلا كعنوان لأزمة يمكن أن تتحول إلى شرارة تغير شكل النظام الدولي، خاصة إذا واصلت الولايات المتحدة تصعيدها الضاغط على الرئيس نيكولاس مادورو ودفعه نحو تنازل قسري عن السلطة تحت تهديد القوة.
ومع اتساع دائرة التجاذب حول كاراكاس، يتسع معها سؤال أكبر حول ما إذا كانت الأزمة الفنزويلية ستظل شأنًا لاتينيًا محصورًا، أم أنها مقدمة لاصطفافات دولية جديدة تعيد للأذهان أجواء أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.
فوجود روسيا والصين وإيران في المشهد يمنح المعادلة تعقيدًا مضاعفًا ويجعل فنزويلا منطقة اختبار لإرادة القوى الكبرى، خصوصًا أن ثرواتها النفطية الهائلة والمعادن النادرة المحفوظة في باطن أرضها تجعلها ساحة جذب لا يمكن تجاهلها!
ومن الواضح أن واشنطن تعتبر أن الوقت مناسب لاستعادة نفوذها في محيطها الاستراتيجي عبر ضغوط سياسية
وربما عسكرية، بينما ترى القوى المنافسة أن التخلي عن فنزويلا يعني خسارة موقع جيوسياسي بالغ الأهمية!
وإذا بدا للجميع أن الأزمة تنتمي جغرافيًا إلى الضفة الأخرى من الكرة الأرضية، فإن انعكاساتها تقترب أكثر فأكثر من
المنطقة العربية، لأن الشرق الأوسط هو المنطقة الأكثر تأثرًا بأي اضطراب في أسواق الطاقة أو في ميزان القوة بين
واشنطن ومنافسيها الصين وروسيا ومعهما ايران، ومع انشغال الولايات المتحدة بصراع محتمل في الكاريبي، قد
تتراجع حساسيتها تجاه ملفات الشرق الأوسط ما يفتح الباب أمام توسع نفوذ قوى أخرى كالروس والصينيين
والإيرانيين في الساحات العربية التي تشهد أصلًا توترات ممتدة.
كما أن أي هزة عنيفة في فنزويلا سترفع فورًا منسوب القلق في أسواق النفط العالمية، وهو ما سينعكس على
اقتصادات المنطقة العربية سواء بارتفاع الأسعار أو بإعادة توزيع التحالفات الأمنية حول مصادر الطاقة!
لذلك تبدو واشنطن أمام اختبار تاريخي جديد، لأن تكرار تدخلات عسكرية غير محسوبة قد يعيد إنتاج أخطاء الماضي
التي بدأت في فيتنام ولم تنته في أفغانستان. ويترقب العالم ما إذا كان الكونجرس سيقبل الرواية التي تسوقها
الإدارة الأمريكية حول محاربة “كارتلات” المخدرات، أم أنه سيوقف اندفاعًا قد يقود إلى مواجهة أوسع ويضيف فصلًا
جديدًا إلى سجل الحروب التي أضعفت صورة القوة الأمريكية!
وما يزيد المشهد تعقيدًا هو أن ترامب يسعى لاتخاذ قرارات حاسمة دون قيود أو مراجعة تشريعية صارمة، مستغلًا أي
غطاء سياسي يمكن أن يمرّر التدخل العسكري الذي يحشد له علي مدار الساعة.
ومع اقتراب العالم من حافة سيناريوهات مفتوحة، يظل الشرق الأوسط أكثر عرضة للتأثر، لأن المنطقة لم تعد تعيش
بمعزل عن التحولات الدولية، بل أصبحت جزءًا من شبكة تفاعلات تتغير فيها موازين القوة وفقًا لكل أزمة يشهدها
العالم.
ومن هنا تأتي أهمية قراءة أزمة فنزويلا ليس كحدث بعيد، بل كملف يؤثر في إعادة تشكيل خريطة النفوذ العالمي،
وهو ما يجعل توقيت الأزمة بالغ الحساسية للمنطقة العربية التي تعيش أصلاً تحت ضغط النزاعات الإقليمية وصراع
القوى الكبرى على مصادر الطاقة والممرات الحيوية.
في النهاية، فإن أهمية الأزمة الفنزويلية بالنسبة للعالم العربي لا تكمن في بعدها الجغرافي، بل في توقيتها
السياسي الذي يجعلها جزءًا من مشهد دولي مضطرب قد يعيد صياغة موازين القوة من جديد!
فالشرق الأوسط سيظل أكثر المناطق تأثرًا بأي تحول استراتيجي بين واشنطن ومنافسيها، وأي اضطراب في أسواق
النفط ، وأي اختبار جديد لإرادة القوى الكبرى.
ولهذا تبدو فنزويلا، رغم بعدها، أقرب إلينا مما نتصور، وربما تكون إحدى نقاط التحول التي ستعيد رسم مستقبل
النظام الدولي وصورة المنطقة العربية في قلبه!