بدأت أول أعمال الحفر حيث وقعت ضربة الفأس الأولى على ثرى مدينة بور سعيد يوم الاثنين 25 أبريل 1859م ، ومع بداية الحفر كان هناك بداية أخرى لأبشع أنواع السخرة التي استمرت عشر سنوات، واستخدم دي لسبس السخرة في تشغيل العمال المصريين، سقط أكثر من عشرين ألفًا منهم تحت وطأة الشمس، وأشرف دي لسبس نفسه على التدابير الخاصة بمواجهة مشكلة العمال المصريين والأجانب ووضع إعلان دعا فيه المصريين إلى العمل والاشتراك في حفر القناة، وإدعى دي لسبس أن الشركة انشأت قرى لسكن العمال، وقامت ببناء المساجد, كما وفرت مياه الشرب وحددت لهم الأجور على أساس الإنتاج وليس على حساب أيام العمل , وتراوح الأجر بين ستة وثمانية قروش في اليوم، وكانت البداية مع العمال بشعة فقد هوت السياط على ظهور العمال الأبرياء الذين سيقوا مكبلين إلى مواقع الحفر.
كان لكل فرقة من العمال – والتي تتراوح بين العشرين والخمسين- ” مقدم ” يقف على العمال بالكرباج ويوقظهم في الصباح مع الفجر بحجة الصلاة, ويمهلهم دقائق من أجل الصلاة، ثم يسوقهم إلى مكان العمل ويظل قائمًا عليهم حتى المساء.
في ظل هذا النظام القاسي لم تكن هناك عناية بصحتهم، فكانوا يمرضون ويساقون أيضًا إلى العمل رغم المرض، وكثير منهم سقط في مكانه من المرض، وإذا مات فإنه يوارى في التراب، ثم يُطلب غيره، فقد كانوا يموتون من المرض والجوع والعطش، وانتشرت الأوبئة التي بدأت بضربة الشمس والتيفود والكوليرا، ثم وباء الطعون، وتساقط أبناء مصر موتى بالآلاف جراء اعمال الحفر فى ظروف قاسية.
كان العامل يعيش على قطعة الجبن القديم والمش والعسل والبصل لمدة تتراوح بين الشهر وأكثر وبجانب مشكلة الغذاء كانت هناك مشكلة المياه التي تعد من أهم المشاكل التي عانى منها العمال في قناة السويس، وبسبب المياه الملوثة مات أغلب العمال بالدوسنتاريا الحادة.
أما أكبر مأساة تعرض لها العمال خلال عمليات الحفر ظهور مادة طينية سائلة كانت تحتوي على فوسفور حارق مما أدى إلى إصابة الآلاف باللأمراض الغامضة والتي أدت إلى وفاتهم على الفور.
وفي 18 نوفمبر عام 1862م تم تدفق مياه البحر المتوسط إلى بحيرة التمساح، و في 18 مارس عام 1869م تم وصل البحر الأبيض بالبحيرات المرة, وفي 15أغسطس 1869م تم وصل البحر الأحمر بالبحيرات المرة.
انتهت أعمال حفر القناة في 18 أغسطس 1869م حين تدفقت مياه البحر الأحمر في البحيرات المرة لتلتقي بمياه البحر الأبيض المتوسط بعد أن تم استخراج 74 مليون متر مكعب من الرمال ناتج حفر القناة وقد أودت أعمال الحفر بحياة أكثر من 20 ألف عامل مصري, وبلغ عدد الذين شاركوا في عمليات شق القناة خلال السنوات العشرة ما يزيد على مليون ونصف مصري من جميع أقاليم مصر.
سار العمل في المشروع وحفر القناة إلى أن جرت فيها مياه البحر الأبيض حتى بحيرة التمساح وذلك في ١٨ نوفمبر ١٨٦٢م، وإلى هذه المرحلة وصلت القناة في عهد سعيد، إذ أدركته الوفاة بعد ذلك بشهرين في ١٨ يناير ١٨٦٣م، تاركًا لإسماعيل إتمام ما بدأه، والوصول بالمشروع إلى نهايته.
حفل افتتاح قناة السويس
بعد الانتهاء من أعمال الحفر بدأ الخديوي إسماعيل يستعد لحفل افتتاح قناة السويس، وكانت هذه الاحتفالات أشبه بليالي ألف ليلة وليلة، فقد سافر الخديوي إسماعيل إلى أوروبا لدعوة ضيوف حفل الافتتاح، وتولى بنفسه توجيه الدعوة لهم.
كانت صيغة الدعوة التي وجهها الخديوي إسماعيل إلى ملكة إنجلترا – الملكة فيكتوريا – تقول: “أنه يسره أن تلبي هي ومن ترى دعوتهم من الأسرة المالكة حفل الافتتاح، وستلمسون في مصر التي هي في الطريق إلى أملاككم في الهند والشرق مدى ما أحرزته مصر من تقدم مادي ومعنوي”.
أرسلت الحكومة المصرية الدعوات إلى 6000 مدعو, وعلى رأسهم أوجيني إمبراطورة فرنسا، وهنري أمير هولندا وفرنسوا جوزيف إمبراطور النمسا، وفردريك ولي عهد روسيا وقرينته ابنة الملكة فيكتوريا وغيرهم, بالإضافة إلى عدد كبير من رجال الدولة.
كما أرسل الخديوي بعثة خاصة إلى جنوة ومارسيليا وليفربول للتعاقد على 500 طاهٍ، وألف خادم ليقوموا بخدمة ضيوفه، وكان أول الضيوف الذين وصلوا إلى مصر تلبية لدعوة الخديوي إسماعيل الإمبراطورة أوجيني.
على ضفاف القناة أقيمت ثلاثة سرادقات مكسوة بالحرير؛ سرادق على اليمين ويضم رجال وعلماء الدين الإسلامي وفى مقدمتهم العلامة الشيخ مصطفى العروسي شيخ الجامع الأزهر، والشيخ محمد المهدي العباسي مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت, وسرادق على اليسار يضم رجال الدين المسيحي, وفي الوسط السرادق الذي يضم الملوك والأمراء وحاشيتهم، وقبل الليلة التي سبقت الاحتفال أجريت تجربة لمرور البواخر في قناة السويس، وأثناء التجربة وقعت كارثة فقد جنحت السفينة المصرية في وسط القناة، وكادت تسد القناة على بعد 30 كيلو مترًا من الجنوب من بورسعيد ، وأسرع الخديوي إسماعيل إلى مكان جنوح السفينة، ولم تنجح عملية تعويم السفينة فأمر الخديوي إسماعيل بنسف السفينة وطبقًا لتعليمات الخديوي قام العمال بإشعال النيران في السفينة.
فى صباح يوم 17 نوفمبر سنة 1869م بدأت الاحتفالات بافتتاح القناة، وتحرك الموكب تتقدمه السفينة ” الإيجل ” وعليها الإمبراطورة “أوجيني ” زوجة نابليون الثالث ثم السفينة المحروسة، وكان هذا اليوم بداية الملاحة في قناة السويس.
عندما مرت الباخرة الإيجل بالسفينة الجانحة تصورت الإمبراطورة أوجيني أن الخديوي إسماعيل قام بإشعال النيران فيها تحية لها، وأعجبت الإمبراطورة بهذه الفكرة الجميلة، ومكثت أوجيني في ضيافة إسماعيل فترة من الوقت، وقد بنى لها إسماعيل استراحة على بحيرة التمساح.
فى المساء أضيئت الأنوار والزينات، وأعد الخديوي إسماعيل لضيوفه وليمة عشاء في قصره بمدينة الإسماعيلية، وضم هذا العشاء آلاف المدعوين – في مقدمتهم الإمبراطورة أوجيني – وعددًا كبيرًا من ضيوف الخديوي.
يذكرالمؤرخون أن نفقات الأسابيع الستة التي أنفقت ما بين وصول الإمبراطورة أوجيني إلى القاهرة ويوم الثلاثين من نوفمبر قد تراوحت ما بين 1.3 مليون جنيه إلى أربعة ملايين جنيه من الذهب.
سوء الإدارة وإرهاصات الاحتلال البريطانى
افتتحت قناة السويس في ١٨٦٩م، مع امتلاك الحكومة المصرية ٤٤% من أسهمها، وأدت القناة إلى تغيير الأهمية الإستراتيجية لمصر، خاصة بالنسبة للإنجليز التي توفر لها طريقًا أقصر إلى مستعمراتها الكبرى بالهند، وعندما تراكمت الديون على الخديوي إسماعيل قام ببيع حصة مصر من القناة في عام ١٨٧٥م.
منذ ذلك الحين صار الاستيلاء على هذه الطريق المائي الجديد من أغراض السياسة الإنجليزية، خاصة بعد تحقيق ألمانيا وإيطاليا لوحدتهما السياسية ودخولهما ميدان المنافسة الاستعمارية، وما يترتب على ذلك من تأثير على مركز بريطانيا في حوض البحر المتوسط، وكان ذلك كفيلًا بأن تتحول أطماع بريطانيا نحو مصر والقناة باعتبارهما مفتاح السيطرة في البحر المتوسط والمدخل للتوسع الاستعماري في إفريقيا، فضلًا عن أن بقاء القناة تحت السيطرة الفرنسية أمر لم يكن يطمئن إنجلترا في حركتها التجارية أو في الوصول إلى مستعمراتها في الهند.
في البداية لم تقبل إنجلترا على استخدام القناة في طريقها إلى الهند إلا في سنة (1306هـ – 1888م) بعد أن فرضت سيطرتها التامة على القناة ومصر، وقبل هذا التاريخ اكتفت بسفينتين كل شهر، وكانت تهدف من وراء ذلك إلى إظهار مشروع القناة في صورة خاسرة، ومضاعفة متاعب الشركة، بل أرادت أن تشتري القناة بأبخس سعر ممكن، وتمكنت من شراء أسهم مصر في القناة في (ذي القعدة 1292هـ – نوفمبر 1875م) واعتبر هذا البيع ضربة موجعة شديدة للمصالح الفرنسية، أما بريطانيا فطالبت بحقها في إدارة القناة.
أخذت إنجلترا وفرنسا من ذلك الوقت تستبق كلتاهما الأخرى إلى الإكثار من مصالحها الاقتصادية والسياسية في مصر، وكانت القناة رأس هذه المصالح، تمهيدًا للتدخل في شؤونها والاستيلاء عليها،
كانت قناة السويس 1859-1869 من أهم طرق النقل والمواصلات بين الشرق والغرب، ويعد هذا باعثًا على إيقاظ المطامع الاستعمارية نحو مصر، وكان في إنجلترا في منتصف القرن التاسع عشر حزب حر يخشى على الإمبراطورية البريطانية من تفككها، ويحارب فكرة الاستعمارية.
عندما تكونت في أوروبا الجمعيات الجغرافية، وكثرت الاكتشافات في القاهرة الإفريقية، وربطت قناة السويس أجزاء الإمبراطورية بعضها ببعض، عدل الحزب الحر عن آرائه، وظهرت أهمية قناة السويس الحربية والسياسية بالنسبة للهند، وأهميتها الاستعمارية والتجارية بالنسبة لإفريقيا.
لم يمضِ وقت طويل حتى رأت بريطانيا أن مصالحها التجارية والسياسية مرتبطة بالقناة، لذلك استغلت الأزمة المالية الخانقة التي تعرضت لها مصر في أواخر عهد إسماعيل، وتدخلت في الشؤون السياسية والمالية في البلاد، وهو الأمر الذي انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر في (1300هـ – 1882م).