تعد الأزمة التي اندلعت بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال زيارته الأخيرة للبيت الأبيض مؤشراً على التوترات المتصاعدة داخل معسكر الحلفاء الغربيين.. هذه الأزمة التي جاءت في سياق المواقف المتباينة بين واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي بشأن الدعم المقدم لأوكرانيا أثارت تساؤلات عميقة حول مستقبل العلاقات عبر الأطلسي ومدى تماسك الحلف الغربي خصوصاً في ظل الانقسامات الداخلية داخل الولايات المتحدة بشأن استمرار تقديم الدعم لكييف !
الموقف الأوروبي يبدو أكثر ثباتاً في دعمه لأوكرانيا، لكن التصدعات في الخطاب الأمريكي أثارت قلق العواصم الأوروبية
التي باتت تدرك أن رهانها المطلق على الولايات المتحدة لم يعد مضموناً ، وهذا القلق قد يدفع الاتحاد الأوروبي إلى
إعادة النظر في طبيعة علاقاته مع واشنطن خاصة داخل منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) .. حيث أبدت بعض
الدول الأوروبية لا سيما فرنسا وألمانيا رغبة في تعزيز الاستقلالية العسكرية للقارة العجوز وتقليل الاعتماد على
المظلة الأمريكية وهو اتجاه قد يكتسب زخماً في ظل استمرار حالة عدم اليقين بشأن سياسات واشنطن الخارجية
في هذا السياق تبرز إشكالية مصداقية السياسة الخارجية الأمريكية خصوصاً في ظل النهج الذي اتبعه ترامب مع
بداية فترة حكمه الثانية.. حيث يميل إلى إبرام الصفقات على أسس اقتصادية وتجارية بحتة دون إعطاء اهتمام كبير
للتحولات الجيوسياسية التي تسعى لإعادة تشكيل النظام العالمي على أسس متعددة الأقطاب
هذا النهج عزز من حالة عدم اليقين لدى الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، الذين وجدوا أنفسهم أمام سياسات
متغيرة تتبع منطق المكاسب الفورية بدلاً من الاستراتيجيات طويلة المدى.
ونتيجة لذلك بدأت العديد من الدول وخاصة في أوروبا في التفكير بجدية في تقليل اعتمادها على واشنطن وبحث
خيارات بديلة تضمن لها هامشاً أوسع من الاستقلالية في قراراتها الخارجية والدفاعية !
في الوقت نفسه هذه الأزمة قد تلقي بظلالها على السياسة الخارجية المصرية التي تقوم على مبدأ التوازن والحياد
الإيجابي في القضايا الدولية وهو ما عزز مصداقيتها كشريك يمكنه التعامل بمرونة مع كافة الأطراف ، فبينما تنشغل
واشنطن وأوروبا بإدارة خلافاتهما حول أوكرانيا، تبقى القاهرة محتفظة بعلاقات متينة مع كافة الأطراف سواء موسكو
أو الغرب ما يمنحها قدرة أكبر على لعب أدوار إقليمية ودولية فاعلة خاصة في الملفات ذات الأهمية الاستراتيجية مثل
أمن الطاقة والأمن الغذائي
أما روسيا، فهي المستفيد الأكبر من أي تصدع بين الحلفاء الغربيين إذ ترى في الخلاف الأمريكي الأوروبي فرصة
لتعزيز موقفها الاستراتيجي في الحرب الأوكرانية ، فكلما ازدادت الشكوك الأوروبية تجاه التزام واشنطن كلما تراجعت
فعالية الدعم الغربي لكييف وهو ما يمنح موسكو مجالاً أوسع لتعزيز مكاسبها الميدانية والدبلوماسية
كما أن أي محاولة أوروبية لإعادة تشكيل سياساتها الدفاعية قد تستغرق سنوات من النقاشات والخلافات الداخلية
ما يمنح روسيا وقتاً ثميناً لإعادة ترتيب أوراقها على الساحة الدولية.
في المحصلة فإن هذه الأزمة تعكس طبيعة التحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي حيث لم يعد التحالف
الغربي على نفس الدرجة من التماسك التي كان عليها في السابق .. وهو ما قد يدفع قوى أخرى مثل الاتحاد
الأوروبي وروسيا إلى إعادة رسم استراتيجياتها وفقاً للمعادلة الجديدة
أما بالنسبة لمصر فإن التزامها بسياسة خارجية متزنة ومرنة سيظل عنصراً مهماً في تعزيز مكانتها الدولية وسط هذه