محمد نبيل محمد يكتب : الاستثمار الثقافى وبناء الانسان (1) .. من الذات نبدأ البناء..
المصرى الجديد.. قالوا عنه الكثير، ووصفوه بالعظيم من الصفات، حتى أنه قاد الإنسانية وحضّرها، وبنى أركان التاريخ وحكم مفاصله، وقلّده الجميع حتى صار موطنًا لشروق الأخلاق، ونموذجًا لبزوغ القيم، وهندس وطبب وبنى وعمّر ورصد الأفلاك، وطوع المعدن وبدأ ثورته الأولى، وزرع الأرض وحصد ثورته الثانية، وعلّم وكتب وألّف وأرّخ وفلسف ورسم ولحن وأبدع، وسبر المياه بحار ومحيطات، وترك الأثر حتى استواء الأرض ومصبات نيله، وتخطى المفازات واعتلى القمم، وهناك ترك قلاعه الشامخات، وحمى وصان أرضه فبقيت كما هى منذ البداية إلى النهاية، وكما لكل بناء أوان لتجديده وليظل راسخًا كأوتاد الأرض وعاليًا يصافح السماء، هكذا الحال يقتضى تجديد بناء المصرى القديم ليعود جديدًا قادرًا على المواجهة، يملك أسباب بقائه فى أوقات تعصف بالزائف وتمحص الأصل، ولن يبقى غير الحقيقى!، ولكى نبدأ إعادة إعمار بنيان الرب؛ علينا أن نبدأ بالأخلاق التى صاغها المصرى القديم عندما بحث فى أسباب وجوده وسر خلوده، واكتشف وهو يبنى نسقه الأخلاقى أنه يبنى ذاته أولًا!
لكن السؤال الأعظم! مَن يبنى مَن؟ أو بالأحرى مَن عليه أن يمسك بمعول البناء والحرث؟ ومَن صاحب الفعل الأول؟
الإجابة تأتى مباشرة من أعماق الذات المراد بناءها، وترد بالصوت الجهور: “أنا مَن أبنى ذاتى!”، نعم صاحب الفعل الحقيقى والعمل المؤثر هو الإنسان لذاته، مَن يريد التجديد وينشد البقاء ويبغى الارتقاء؛ عليه أولًا أن يغير من نفسه، وأن يصوب فكره باستنارة، ويحقق مشاعره بصدق، ويقود سلوكه بإرادة حرة واعية، ليكون فاعلًا ويملك زمام نفسه!.
وربما فى النصوص المقدسة والشاعرة والفلسفية والسياسية والثقافية مردود للتعويل على الإنسان نفسه فى إعادة بناء ذاته، كما فى قوله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَو٘مؑ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم٘ [الرعد: 11]، وفي الكتاب المقدس: “تغيروا فى شكلكم بتجديد أذهانكم” [رو 12، 2]، وفى الشاعرة: “إن نفسًا لم يشرق الحب فيها.. هى نفس لم تدر ما معناها” (إليا أبو ماضى)، التغيير من سنن الكون وهو ضد الثبات والسكون والتجمد، “التقدم مستحيل دون تغيير، وأولئك الذين لا يستطيعون تغيير عقولهم لا يستطيعون تغيير أى شيء” (جورج برنارد شو)، وعن تغيير الرأى يقول (ونستون تشرشل): “المتعصب امرؤ لا يمكنه تغيير رأيه ولا يريد تغيير الموضوع”، وفى سياق التغيير الحضارى والثقافى يرى (على عزت بيجوفتش) أن “الثقافة هى: الخلق المستمر للذات، أما الحضارة فهى: التغيير المستمر للعالم”.
وهنا يتأكد أمران، الأول: أن الإنسان -ذاته- هو المسؤول الأول عن تغيير معتقده وفكره وأحاسيسه وسلوكياته للأفضل، والأمر الثانى: هو أن التغيير سنة الكون وسبب ارتقاء الإنسان الذى يترك وراءه الجمود واالتخلف، ولذا كان حتمًا البدء بإعادة إعمار بنيان الرب بيد البنيان -نفسه- ومن خلال تجاوزه لمحيط ركوده الظلامى، أو بمعنى أدق على الإنسان أن يعيد تقييم ذاته ليرسم بيده ملامحه، ليست الشكلية فحسب، وإنما الباطنة أيضًا، ويعود كما كان أجداده الأصل وأصحاب الفعل، وليس الشبه والمفعول به!
وفى القادم إن شاء الله نبنى أركانًا جديدة فى المصرى الجديد تبدأ بلبنة الثقافة وتتخذ شعار (الثقافة أسلوب حياة) لتستعيد للمصرى نسقه القيمى حتى يستطيع أن يكافئ مصر الجديدة.