” شطبنا ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام 

الإعلامي محمود عبد السلام

ترك رأسه تعود إلى الخلف ، وأغمض عينيه ، ثم تابع الأصوات الآتية من إتجاهات مختلفه حوله ، أنسابت على أُذُنه أيات القرآن الصادرة من إذاعة القرآن الكريم ، مختلطة بأصوات السائرين فى الطريق ، وضوضاء أبواب المحلات وهى تُفتح ، وزمجرة محركات السيارات ،

أسلم روحه لأيات سورة الرحمن ، كلما وصل القارئ إلى قوله تعالى ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) شعر بأن جسده كله يرتعد ، توالت الأيات على مسامعه فأسلمته لحاله من الوجد ، فزرف الدموع وتمنى من الله لحظتها أن يقبضه على هذه الحالة ،

لحظة من السمو والأرتفاع جعلته يرى الدنيا على حقيقتها ، رغم أن الله قد أنعم عليه بوافر الصحة والستر بالمال الا أن مرارة الدنيا لا تفارق حلقه ، لقد خلقه الله هكذا يتمنى دائماً أن تكون الحياة مكتملة ، يحزن إذا قابل مسكين ويبكى على بكاء طفل صغير ، تأْسره اللفته الطيبة ، ويطرب إذا أستمع لزقزقة عصفور ، ولا يمل من سماع هدير البحر

شخص حساس إلى درجة مفرطة كان يريد أن يرى الجمال فى القبح ، ويريد أن يرى النظام فى الفوضى ، ويصبو أن يسود العدل ، لم يكن يتوقع أن أمنيته ستتحقق بهذه السرعة وبهذه السهولة ،

قبل أن يختم القارئ سورة الرحمن ، شهق شهقة خفيفة وأنسالت على خده دمعه ودخل إلى عالم موته ، لم ينتبه أحد من الموجودين فى المكان بأنه قد أسلم الروح ، يذهب النادل ويأتى لتقديم الطلبات ويمر عليه ولا ينتبه لموته ،

حاول أن يلفت نظرهم لموته بأى وسيلة لكنه لم يستطع الحراك ، كان يرى ويسمع كل شئ ، أصوات النرد عند أصطدامها بخشب الطاولة ، صياح اللاعبين ، مناداة الباعة الجائلين ، حوار أحد الزبائن مع صديقه ، أوراق الدمينو وسقوطها على الأرض ، قرقعة ماء النرجيلة ، الضحكات الساخرة ، نشرة الأخبار ، سعال شارب الدخان ،

كل شئ يدركه ويسمعه ويراه بوضوح ، لكنه لا يستطيع أن يتجاوب مع تلك الحياة ، تمنى أن يعود لدقائق ليخبرهم أنه مات ، ثم يعطيهم أرقام هواتف أقاربه كى يأتوا ليقوموا بعمل اللازم ودفنه ، ثم تسائل إلى متى سأظل هكذا ؟

حرارة الجو زادت وزاد معها توتره وهو ميت وبدأ يتمنى أنتهاء تلك اللحظات حتى ينتقل بشكل كامل إلى عالم الآخرة ليرتوى من أنهار الجنة ، التنميل فى قدميه زاد لثباته على هذا الوضع فترة طويلة ، تمنى أن يستطيع أن يمد قدميه ولو قليلاً مثل بقية زبائن القهوة ، لايريد أكثر من ذلك ،

مر الوقت ثقيلاً وهو لا يعلم كيف سيخرج من هذا الموقف ، تملكه اليأس أن ينتبه أحد لموته ، أنتابه القلق من فكرة أن يبقى معلقاً هكذا بين الأرض والسماء ، لا يحب الوقوف فى المنتصف بين الدنيا والآخرة ! لكن ماذا يفعل ؟

أخذ يتدبر أمره محاولاً إيجاد طريقة يعلن بها خبر موته لكل من حوله ، حاول أن ينادى على النادل لكن صوته خرج محشرجاً ضعيفاً لا يسمع ، حاول ان يصفق لكن خدل فى يده خانه ، حاول أن يقف لكنه لم يدرك من الأرتفاع بجسده سنتمتراً واحد،

بدأ اليأس يدب فى نفسه ، وأقترب من الأستسلام بأن حظه العاثر ألقى به أن يكون ميتاً بلا موت على قارعة الطريق فى قهوة مزدحمة لا يشعر به أحد ، وأخذ يتذكر موت معارفه ويحسدهم ، فأحدهم مات على سريره والآخر على صدر صديقة والثالث بين أولاده ،

صحيح أن الجميع قد مات ، لكن هناك موت بكرامة وموت آخر يحمل العديد من علامات الأستفهام ، حاول أن يجد تبريراً لأن تكون خاتمته هكذا ، فتذكر أعوام الشباب وبعض النزوات ، وأرتاح فى هذه اللحظة لفكرة أن القدر يريد أن يطهره فيتخلص من أخر ذنوبه فى الدنيا بهذه الموته قبل أن ينتقل كاملاً إلى الآخرة ،

عند هذه الفكرة راوده أحساس بالراحة والأستسلام منتظراً أنتقاله فى اى وقت ودخوله الجنة فأغمض عينيه وراح فى سُبات الموت العميق ، لم يمر وقت طويل وهو فى هذه الحال حتى أمتدت يد النادل تهزه بعنف قائلاً ، الحساب يا أستاذ شطبنا .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.