” حكايات من الطريق ..  أم بلبل -1 ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام 

الإعلامي محمود عبد السلام

ذات صباح أتت إلى منزلنا ، تحمل فى يد ” بوئجة ” هدوم وفى اليد الأخرى تشعل سيجارة ، تتحدث فتخرج نبراتها خشنة بفعل الدخان ، تروى لنساء المنزل قصتها ، حيث فقد زوجها ثروته فى سباق الخيل ،

كانت امرأة ذات مقام وجمال ، تدهور بها الحال ، هبطت من السماء السابعة إلى سابع أرض فى لحظات ، تترقرق الدموع فى عينيها .. تسح ربات البيوت المتعبات الدموع حزناً على مأساة أم بلبل ، ينتهز أغلبهم الفرصة سانحة والأسباب صائغة لسكب الدموع

قبل أن تنتهى أم بلبل من حكايتها ، تطلب قبولها كساكنة جديدة فى الحجرة التى تحت السلم ، فى آخر الليل تأوى إلى ظلام حجرتها ، لا شئ فى الحجرة الضيقة كصندوق حذاء سوى سرير صغير ولمبة جاز ، يمر الليل وهى تشعل السيجارة من سيجارة حتى تنام من الاختناق

ينتهز الصبية فرصة دخولها الحمام بحوش البيت ويسترقوا النظر إلى جسدها المتغضن ، انتشرت الحكايات فى الحى عن استقبالها المراهقين فى حجرتها مقابل نصف جنيه ، وتنازع المعلم جرجس والحج حسين حول إنتمائها الدينى ، فأقسم المعلم جرجس أنه رآها يوم الأحد فى القداس بكنيسة مارى جرجس ، وأقسم الحاج حسين أنه اطلع على بطاقتها وكان أسم جدها محمد

قسمت أم بلبل أيامها على العمل فى شقق البيت طوال الأسبوع فى مقابل ربع جنيه ووجبة غداء ، كانت أمى تزيد

على ذلك فترسلنى أشترى لها التبغ ، بعد أن تنتهى من نظافة الشقة ، تصنع أمى لها كوباً من الشاى وتشعل هى

لفافتها وتبدأ فى سرد حكايتها ، يتناه إلى سمعى نهنهات أمى وحزنها على أولاد الناس عندما تغدر بهم الأيام ،

تغلق أم بلبل باب حجرتها فى المساء ، عندما أمر على حجرتها ، أركض مسرعاً خوفاً من العفاريت والثعابين

المنتشرة فى بير السلم ، أسألها ، أنتى مبتخافيش من العفاريت ؟ تضحك ضحكة خشنة منزوعة من جرح قديم ،

العفاريت ما بتخوفيش .. اللى بيخوف البنى آدمين !،

عشر سنوات مضت كبرنا نحن وكبرت أم بلبل ، و أصبحت لا أرها إلا قليل ، أنحنى الظهْرّ وتقوست الأقدام وسقط

الشعر وتجعد الوجه وأنتفخ البطن وتملك منها المرض

أوصتنى أمى أن أمر عليها يومياً ربما تحتاج أمر من أمور الحياة اليومية ، قبل أن أذهب إلى الجامعة أمرّ عليها فى

الصباح ، تبتسم فى وجهى وتدعو لى بطول البقاء والستر فى الدنيا والأخرة ، يوم بعد يوم وهن الصوت وسكن

الجسد وأصبحت بلا حراك

اجتمع الرجال فى بئر السلم لإنقاذ أم بلبل ، تكلم كبيرهم عن غدر الزمان وتقلب الأحوال وعن الكريم إذ يضام وأوصى

فى نهاية الكلام بضرورة أحضار طبيب

لقى أهل البيت العناء فى جمع أجرة الطبيب فتأخر فرحلت فى المساء وحيدة كما عاشت طوال أيامها التى قضتها

فى الحجرة التى تحت السلم ، لم تعرف النساء كيف يغسلوها فى هذه الحجرة الضيقة، ولا أين سيدفنوها ، أنغلقت

كل الحلول على أهل البيت المجتمعين ، ثم أهتدوا إلى أن الحل هو أبلاغ البوليس

طلب ضابط النجدة فتح الحجرة فى وجود بعض نساء البيت حتى يساعدوه فى حمل الجثة ، وعندما فتحوا الحجرة

وجدوا السرير خالياً ، ظل أهل البيت منذ ذلك الوقت حتى الأن يتحدثون فى لياليهم الطويلة وفى جلسات السمر ،

عن معجزة أم بلبل ورفعها إلى السماء ، وأنها صاحبة كرامة ، فقد وفرت على الجميع حيرتهم فى تغسيلها ودفنها ،

وحكت زوجة الحج حسين أنها رأت السيدة زينب تأخذ بيدها وتصعد إلى السماء ،وأقسمت زوجة المعلم جرجس أن

الذى صعد بجسدها إلى الجنة مارى جرجس ، لكنى إلى الآن ما زلت أتسائل بعد كل هذه الأعوام ، ماذا لو لم يتأخر

الطبيب عن أم بلبل ؟ .. ترى أين كانت هى الأن ؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.