محمد نبيل محمد يكتب : سيناء .. قنابل فرحانة !

محمد نبيل محمد

العرق يتساقط كغزير المطر من قمة الجبهة وناصيتها الى اخمص قدميها , وهى لا تعرف الى اى شاطىء سترسوا مراكب النجاة ام ستغرق فى بحار العرق البارد , ودفوف القلب تدق بقوة لا تفرق أذنيها بين عزف الموسيقى الجنائزية او دفوف النصر ايهما ينهى تلك اللحظات التى قاربت مسافاتها بين الواحدة وتاليتها الى الاثنى عشر شهرا ,

نعم , اللحظة تمر وكأنها سنة كبيسة , تأبى ببخل شحيح الا ينتقص منها يوما واحدا , وتأتى لحظة من تلك اللحظات الجسام تتقابل فيها عينها مع مفتشة العدو المعينة لتفتيش السيدات بعناية مؤلمة , وكانت خلفيات الموسيقى المتصاعدة من اعماق قلبها , والمتردد صداها داخل تجويف صدرها النحيل , هذه المرة موازية مع لقاء النظرات , هى دقات طبول حرب قد لاح فى الافق غبار انسحاب اعدائها وتجمعت سحائب النصر تزين هامتها الابية ,

كانت نظرة حادة , مطمأنة , واثقة , ثابتة , لا تخلو من سذاجة – مقصودة – لتكسب الرسالة اعتيادية التفتيش ولا مبالة من استكمال اجراءات التفتيس السخى , ولا ضرورة من مبالغات قد تبدو هى الاخرى مصطنعة من جانب المفتشة , فالامر لا يستحق كل هذا العناء , فتنتهى النظرتين المتبادلتين بكلمة المرور الامن , وزفرة راحة تمر الى قداسة تراب الشرق الساحر , المنتصرة ” فرحانة ” تخفى حول جسدها الذى يبدو للمرة الاولى بأنه هزيل ضعيف ,

وهذا ما ارادت هى ان تخبر الجميع بذلك , انما ما اخبرنا به التاريخ الذى لا يتجمل ولا يتبدل ولا يتغير , ان تلك الفتاة ذات السنوات الثلاثين التى خرجت مع اسرتها البسيطة من عريش سيناء عقب احتلال العدو ودناسته للتراب المكرم من خطى الانبياء والصالحين , والمخضب بدماء السادات الشهداء ,

لكنها فى النهاية ممن لم يستطيعوا تحمل تبخطر العدو وتغطرسه الكاذب , والابطال فى ذاك الشأن مختلفون الهوى متفقون الغاية , وخرجت – قاصدة العودة – ” فرحانة ” بعد أن اضطرت الأسرة إلى الهجرة من سيناء إلى حى إمبابة بالقاهرة ليس هربا من بطش الاحتلال لكن كوقفة تعبوية تستلزم اعادة تجميع الطاقات والامكانات , والتخطيط الواقعى لتحقيق نصر على المغتصب يسترجع الارض والكرامة معا ،

وبالفعل اصبحت امبابة للبطلة ” فرحانة ” قاعدة انطلاق الدوريات , ومركز التخطيط للعمليات المتتالية ضد عدو ارضها , وفى اثناء رحلة الانتقال الى الوادى كان الذهن الشارد يستجمع تركيزه ويلملم شتاته , هى تفكر , ولم تنظر لحظة واحدة الى الوراء حتى اقتنعت اسرتها باستقرار الحال لدى ” فرحانة ” الى ما آل اليه الوضع , وارتسمت ملامح الرضا الزائرة – مؤقتا – على هذا الوجه الصغير المكتظ بجغرافية سيناء , كلثومين كجبالها , وثغر كعيونها , ومقلتين لا حدود لحدقتيهما كما السماوات الواسعات , تكسوهما رموش هى اغصان الزيتون , ويحمل هذا البهاء جسدا كما نخيل سيناء باسقات لها طلع نضيد ,

هى سيناء الجميلة وسيناء هى البطلة , وتهتدى ” فرحانة ” لفكرة تعطيها جواز المرور الدائم الى سيناء , وبأريحية

لدى اسرتها فى امبابة , وبمنطقية لدى بوابات التفتيش فى الشرق , وهى الملقبة ( ببائعة القماش ) , اعتادت البيع

والشراء لاكتساب قوت يومها والمعاونة على عناء تربية ابنائها , ويبدو ان الكل اقتنع بممارسات تجارة القماش من

الوادى الى سيناء , ومنذ الخطوة الاولى فى المغادرة ,

وكانت الفتاة تنتوى الانضمام بمنظمة سيناء العربية ، ومن خلالها تدربت مع اخرين واخريات من أبناء وبنات سيناء

المهاجرين على حمل القنابل وطرق رصها وعمل حقل وكمائن الالغام , وكيفية تفجيرها , بالاضافة الى مهمة اخرى

برعت فى ادائها باتقان وهى نقل الرسائل والأوامر المشفرة من القيادة إلى خلايا المنظمة , الى ان قامت بأول

عملية وكانت المعاونة فى تفجير قطار العريش المحمل بالعتاد والاسلحة والجنود المعادية ،

فقامت بزرع قنابل الانتقام والثأر بين عجلات القطار الذى تلاشت حطامه الحديدية الصلبة وتطايرت امام ارادة الثأر

التى فاق اضطرابها وتأججها فى خلايا صدر “فرحانة” , فاقت جبال اللهب المتفجرة فى حجرة البخار المسئولة عن

اندفاع قطار الاعداء , الى ان اختفى الجنود وعتادهم كذرات غبار امام الاعين الفرحانة بزهو النصر, وتشجع القلب الى

ان اقدمت صاحبته على مهام كانوا يظنونها للرجال فقط ,

وتوالت العمليات بعد ذلك فكانت تترقب مدرعات الجنود الاعداء التى كانت منتشرة ترفل فى امان زائف بصحراء سيناء

، وقبل مرور تلك المدرعات امام ناظريها , تكن فريسة حقل الغام وقنابل ” فرحانة ” فتتحول فى لحظات إلى قطع

متناثرة ومحترقة تختفى اثارها كما تختفى النار من الوجود عند اطفائها, ونعود الى اول مرات العبور وكانت ” فرحانة”

تحمل عدداً من القنابل مخبأة بطريقة خاصة أحضرتها من القاهرة للتوجه بها إلى العريش لتسليمها للمجاهدين

الرجال،

وقامت دورية إسرائيلية بتفتيش القارب الذي كانت على متنه مع عدد من زميلاتها، فأحست “فرحانة” أن تلك

اللحظات ستكون الأخيرة فى حياتها، فالمؤكد أن الإسرائيليين سيكتشفون القنابل المخبأة لديها وسينسفون رأسها

بإحداهما ، لكن هدوءها ورباطة جأشها جعلا المفتشة الإسرائيلية تفتشها تفتيشاً سطحياً فلم تعثر على القنابل ,

وظلت هكذا عشرات المرات وربما المئات تعبر من الغرب الى الشرق برسائل الأوامر وبقنابل الثأر حتى اتم الرجال

العبور الاعظم , واهداها القائد الاعلى وسام الشجاعة ونوط الجمهورية من الطبقة الاولى , وظل التاريخ امام صورتها

وهى تحمل براءة النوط مدون عليه البطلة ” فرحانة حسين سلامه الهشة ” من سيدات سيناء العظيمات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.