” سوق الباذنجان ” .. قصة قصيرة للأديب محمد الشرقاوي

كزهرة يانعة تستقبل ربيع شبابها بشوق وبهجة ، هذا هو عامها السادس عشر ، وجهها يبوح بجمال لم تألفه العيون ، مستدير كدائرة محكمة لا عوج فيها ،
عيناها الواسعتان تفصحان عن براءة وصدق وتعاون وسعي لتحقيق آمال ظلت ترسمها مع أقرب صديقاتها ، أما بشرتها البيضاء فتفصح عن نعومة تجذب الأنظار بقوة ،
صوتها عذب ندي وفي مفرداتها وداعة وتسامح تم قتلهما عمدا في هذا العالم المادي الشرس ، لم يكن في حياتها حينئذ بعد وفاة أبويها سوى أخت لها وابنة عم وابنة خال وبعض الصديقات الحميمات اللائي أثبتن لها صدق المشاعر وجميل النصح وكتم الأسرار ،
هذه هي بسملة أو كما يلقبها المحيطون بها ( نور الصباح ) ، لم يعرفها أحد إلا وقد أعلن إعجابا شديدا بكل صفاتها مما يزيدها حرصا وسعيا إلى كسب المزيد من ثقة الناس والحفاظ على تلك الانطباعات الدافعة للسلام النفسي والإبداع والتفوق .
أخيرا تظهر بسملة لوحتها الفنية التي ظلت بعيدة عن الأنظار ولا يعلم أحد عنها شيئا ، حتى الفكرة نفسها ظلت طي الكتمان إلى أن فاجأت الجميع بها ،
فهي تدرك مثلما سمعت وتعلمت بأن تنفيذ الفكرة الجيدة يحتاج لسرية تامة ، ربما لأن الناس لا يصدرون لغيرهم سوى الإحباط وإضعاف العزيمة ، أو ربما لعوامل الحسد والحقد على كل ذي نعمة ،
ظلت تنظر لهذه اللوحة بإعجاب شديد وكذلك زميلاتها ، تتخيل كيف يكون انطباع صاحب الصورة المرسومة عندما تهديها له ، حرصت في ألوانها على الصفاء والهدوء والبعد عن الصخب بما يتناسب مع عمر صاحبها الذي تخطى الثامنة والخمسين من عمره ،
الخلفية لونها أصفر خفيف ، ملابس الرجل زرقاء اللون ، شعره ناصع البياض ، برواز اللوحة مزخرف بعدة ألوان وبطريقة رائعة ،
حان يوم ميلاد صالح مدير سوق الباذنجان ، هكذا أطلق عليه أهل الحي لأن جميع الفتيات لا يعرفن القراءة ولا الكتابة ،
تتأهب الفتاة بسعادة لتقدمها له وتتخيل رد فعله وثناءه عليها وتشجيعه لموهبتها التي تحاول أن تشق طريقها نحو النور ، فربما تشارك بعد ذلك في معارض فنية تحظى بشعبية واسعة ، إنها الأحلام التي تداعب الواقع حتى يعترف بها .
بخطوات وثابة تحيطها النشوة والأمل ، تمضي بسملة نحو مكتبه ، الهدوء يحيط المكان الذي يبدو نظيفا لامعا بجهود كتيبة العاملات المقاتلات اللائي قضى التعب والمرض على صحتهن ومع ذلك لا يحصلن إلا على الفتات ،
تستأذن للدخول فيأذن لها ، لكنها تعود جريا عندما تلاحظ أمرا غريبا وكأنها تفر من زلزال عنيف ، مشاعرها مناقضة تماما لتلك التي كانت قبل لحظات ، عيناها شاخصتان ، أما عقلها فقد هبط إلى الواقع المرير هاربا من أجمل الأحلام ،
الصمت يفرض نفسه كأنه جبل ضخم فوق كتفيها ، حتى كلام صديقاتها لا تكاد تسمع منه شيئا ، ماذا حدث ؟
سؤال يتردد على ألسنة الزميلات ويقفز من عيونهن ، أما المقربات لها فقد حرصن على الوقوف بجوارها للتخفيف عنها حتى وإن فضلت الصمت ، ليتها تتكلم ، ليتها تفصح عن مشاعرها لتمنع طوفان الأسئلة المتسارع نحوها ، تشير لهن إحدى صديقاتها المقربات وفاء بتركها قليلا حتى تهدأ فكان ذلك وكانت نعم النصيحة .
في جلسة ثنائية مع وفاء ، بدأت بسملة تعود نحو الواقع ، وبعد أن شربت علبة من عصير التفاح والتي قدمتها لها صديقتها ، أخذت بسملة في سرد قصة اللوحة منذ بدايتها ، ظلت تحكي وتبوح بما كانت تنتظره ، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ،
فقد وجدت المدير واقعا في غرامها ويطلب منها أن تغلق الباب وتبادله حبا يعيد له عمر الشباب الذي لم يجد به عشقا يروي ظمأه فظل عطشانا مدى حياته ،
حاولت بسملة أن تقنعه بأنه في عمر أجدادها لكن دون جدوى ، وما زاد من قسوة الموقف على قلبها رسالته تلك التي أرسلها منذ أسبوع عبر الواتساب والتي لم ترها إلا الآن بعد أن سألها عن سبب عدم قراءتها ،
تلك الكلمات التي لا تصدر إلا عن شاب مندفع متهور لا يستطيع التحكم في عواطفه ، وكذلك صورته في حجرة نومه ، تصغي وفاء ولا تكاد تصدق ما تسمع من هول المفاجأة وغرابة الأحداث ،
أخيرا تختم بسملة كلماتها قائلة : لقد صدمني صدمة لا أظن أنني سأخرج منها قريبا ، إني مشفقة على كل زميلاتي البريئات من هذا وأمثاله ، لقد خان الله وخان الأمانة ، لا سامحه الله ، لا سامحه الله .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.