جريمة القتل ” البشعة ” التى وقعت في قرية “أبو حزام” التابعة لمركز نجع حمادي شمال محافظة قنا ” 600 كم جنوب القاهرة ” والتي أسفرت عن مقتل 10 أشخاص وإصابة 7 في إشتباكات دامية لم تشهدها المحافظة من قبل .
هذه الجريمة تعيد إلى الأذهان منطق الدم الذى يوصف ” بميراث الجاهلية الأولى ” الذى ينتشر فى صعيد مصر بوصفه عادة متأصلة تطل برأسها كالأفعى من حين لآخر . وتعيد إلى الأذهان سلسال الدم من جديد
الصعيد عانى كثيرا من الإهمال والتهميش وقلة الخدمات مما أدى إلى الجهل والتخلف وإنتشار الأمية ولسنوات طوال كان الصعيد منفى للمغضوب عليهم وأصبح من المحافظات الطاردة للسكان بسبب الفقر وقلة ذات اليد والشح
ومؤخرا فطنت الدولة لذلك وبادرت بإنشاء ” الهيئة العليا لتنمية جنوب صعيد مصر ” التى تعتبر ضمن خطة الدولة للإسراع بالتنمية الإقتصادية والإجتماعية والعمرانية الشاملة لمناطق إقليم جنوب الصعيد .
ونأمل أن تترجم تلك الخطة إلى مشروعات على أرض الواقع تستوعب الأيدى العاملة وتتحقق التنمية المستدامة والعوائد الإقتصادية والإجتماعية للمناطق المستهدفة ، وأن لا تكون تلك العبارات البراقة حبرا على ورق كما كان يحدث فى السابق .
الحقيقة أن إهمال الصعيد لسنوات طوال لم يكن الخطأ الوحيد للدولة المصرية وإنما تبعه سلسلة من الأخطاء كانت من ضمن الأسباب التى أدت إلى تدهور الأحوال المعيشية فى الصعيد ، ونخص منها فترة الثمانينات والتسعينات حيث عانت مصر كثيرا من ويلات الإرهاب الأسود الذى طل برأسه على مصر وإستهدف السياحة والإقتصاد والإغتيالات .. إلخ
ومن الأخطاء التى وقعت الدولة فيها بل وتتحمل تبعاتها أنها فى سبيل الوصول إلى البؤر الإرهابية والقضاء على هؤلاء الإرهابيين إستعانت ببعض ” الخارجين ” على القانون فى عدد من محافظات الصعيد وسلحتهم وجعلت منهم أصحاب نفوذ بسبب مرافقتهم للقيادات الأمنية .. إلح .
لكن ماحدث بعد إنتهاء الأزمة أن هؤلاء أصبحوا مصدر قلق للدولة وصداعا دائما فى رأسها ، لأنهم أصبحوا دولة داخل الدولة ، وإستشرى نفوذهم وأصبحوا مراكز للقوة يتم الإستعانة بها فى أعمال البلطجة وتصفية الخلافات الشخصية بين القبائل والعائلات وردع بعض الأشخاص إلى جانب الإستعانة بهم فى بعض الدوائر الإنتخابية .. إلخ
وكان لابد من تصفيتهم وقد جسدت الدراما ذلك فى فيلم ” الجزيرة ” . أضف إلى ذلك الطريقة التى تعالج بها الدولة النزاعات القبليه وخاصة جرائم الثأر أو مايعرف ب” الحلول الأمنية ” هى عادة ماتكون غير مجدية .
الدولة لفترات طويلة إعتمدت على ” التقارير الأمنية ” فى شغل بعض الوظائف مثل الإلتحاق بالكليات العسكرية وكلية الشرطة والنيابة العامة وغيرها وقصرتها على قبائل بعينها هذا بخلاف الرشاوى التى وصلت إلى مبالغ خيالية مما ولد نوعا من الإحتقان القبلى لدى أبناء الصعيد بسبب عدم تكافؤ الفرص . وأعتقد أن الدولة فطنت لذلك مؤخرا ووضعت معاييرا ثابتة يجب أن تتوفر فى المتقدم حتى تنهى تلك التفرقة الغير عادلة فى شغل تلك الوظائف .
فى الواقع هناك فجوة كبيرة بين مايعيشه الصعيد والعبث الذى تجسده الدراما التى تبعد كثيرا عن معاناة الصعيد وقضاياه ، الفارق بين ” الصعيد ” فى الواقع والصعيد فى الدراما فارق كبير جدا لا يعرفه إلا الصعايدة أنفسهم ،
والحقيقة أن مايشاهده أهل الصعيد فى تلك المسلسلات لايعبر عنهم فليست هذه طريقتهم فى الكلام ولاهذا ملبسهم ولا تلك القصور والبيوت الفاخره هى بيوتهم ، بل أن مايشاهدونه ليس له أية علاقه بقضاياهم ، والمثير للشفقة أن لهجات الصعيد ليست واحدة فقد تختلف اللهجة فى المحافظة الواخدة من شمالها إلى جنوبها كما يحدث فى محافظه قنا .
دراما الصعيد للأسف تلخص قضايا المجتمع الصعيدى فى ” الثأر ” وإبتعدت عن مشاكله الحقيقية ، وفد خلفت للأسف صورة نمطية للصعيدى بالعمامه والكلام الممجوج إلى جانب القسوة والغباء وغياب الضمير .. إلخ .
جريمة ” أبو حزام ” البشعة التى وقعت مؤخرا فى نجع حمادى فتحت الجرح الغائر لعادة الثأر المتأصلة في الصعيد من جديد ، بل وأثارت الجدل والعديد من الأسئلة حول السبب فى وجود هذا الكم الهائل من مختلف أنواع الأسلحة النارية والآلية الموجودة فى الصعيد بما فيها أسلحة ” الكلاشينكوف ـ الجرينوف ـ آر.بى.جى ـ الرشاشات بأنواعها ـ والبنادق الآلية ووصل الأمر إلى الأسلحة الثقيلة مثل مدافع م.م.ط .. وغيرها ” لماذا لاتتخذ الدولة إجراءات رادعة حيال حائزى تلك الأسلحة ؟
والأهم من ذلك هو كيفية القضاء على عادة الأخذ بالثار من جذورها وخاصة وأن هناك عوامل كثيرة مساعدة مثل إنتشار التعليم وأن اغلب أبناء الصعيد فى مراكز مرموقة فى الدولة ، ولذلك أقترح مبادرة بتكوين ” جبهة شعبية ” تتكون من 300 عضو ممثل فيها أبناء الصعيد من الجيزة إلى حلايب وشلاتين من مختلف فئات المجتمع لمواجهة جرائم الثأر
وأقترح أن يترأسها أحد الشخصيات المرموقة مثل فضيلة الدكتور أحمد الطيب تكون مهمتها حقن الدماء وفض المنازعات وقت وقوعها والتوسع فى الجلسات العرفيه والقضاء العرفى الذى يصلح بين العائلات التى لها خصومات ثأرية ، والعمل على أن تقبل بالعفو والتسامح دون قبول ” الدية ” مثل حمل الكفن .. وغيرها .
وأن تعمل تلك الجبهة الشعبية على إيجاد علاقات ” نسب ” متبادلة بين أبناء العائلات المتنازعة تضمن الحيلولة دون تجديد الإشتباكات فى المستقبل ، كما يمكن لها أن تضع شروطا قاسية فى حال الإحلال أو عدم الوفاء بشروط جلسات الصلح .. إلخ . على أن تكون تلك المجالس العرفية تحت رعاية المحافظ أو الدولة ، وأن تكون هناك لقاءات وإجتماعات دورية مع العواقل والعمد والمشايخ وكبار العائلات ، من أجل التصدي لهذا الفكر وتلك الثقافة ، القبلية المتجذرة حتي يتم القضاء عليها نهائيا من صعيد مصر .
دام الصعيد حرا ، أبيا ، عزيزا ، كريما ، ودام أهله ، أهل جود ، وعز وكرم ، ودامت كلمتهم كلمة واحدة ” ماتنزلش الأرض أبدا ” ، ودامت قناعته وغيرته على أهل بيته ، ودام بيته مفتوحا للقاصى والدانى ، محتفظا بعاداته وتقاليده وقيمه الأصيلة ، وفيا بطبعه ، صائنا للامانة ، مخلصا فى عمله ، كريما ، سخيا ، مروفع الرأس معتزا بكرامته . ودامت مصر وطنا عزيزا كبيرا نسعد بالعيش فيه جميعا ” فلاحين وصعايدة ” كل له عاداته وتقاليده .