فى قريه الزيتون التابعه لمركز ناصر بمحافظه بنى سويف كان نبت الحُلم يترعرع ويخضر ويكبر يوما بعد آخر , انهى الحُلم دراسة (المريلة الكاكى) فى مرحلته الابتدائية, ومازال الحلم الجميل يكبر, ويردد مع صباح كل يوم :” تحيا جمهورية مصر العربية ” ثلاث مرات كما الصلاة , ينظر الى عَلم بلاده , ويتعلق بساريه كل يوم فى فسحة منتصف اليوم الدراسى , وكأنه يحاوره , ويظن الحُلم ان حديثه الصامت مع سارى علمه كان سرا ,
والحق ان ذاك الحوار سمعه وشاهده كل زملاء الحُلم فى حب العَلم وجميع مُعلمى حب الوطن, فالمدرسة بكاملها كانت تلحظ تحسس يد الحُلم الصغيرة – يوميا – لسارى العَلم الشاهق العظيم , وايضا كانوا يسمعون ضجيجا وصخبا متبادل بين العَلم والحُلم , مناجاة لا تميز بين صوتا صاحبيها فكلاهما فى آن واحد ينادى على الآخر , ويكبر الحلم ثانية , وينتقل الى اعتاب الثانوية العامة , ومازال العَلم جليسه فى فناء مدرسته الثالثة , ومازال الكل يسمع ويرى (حُلما يراود عَلما وعَلما يناجى حُلما) , وكلاهما لا يفترقان , كلما رفرف العَلم خفاقا عاليا , خفق قلب الحُلم وعزفت دقاته سلام الشهيد , نعم الشهيد! , فهذا الشاب الصغير كان يحُلم بالعَلم , كان يرى ذاته يحتضنها ذاك العَلم , انما كيف التفسير لعقل هذا الصبى ؟!,
كيف ينزل العَلم من عليائه الى ارض هذا الحُلم ؟!, ام تُرى سيصعد هذا الصبى بجسده الى علياء السماء ليستتر بعَلمه ؟!, كما راحت روحه منذ صغره الى ذاك العَلم هناك , فوق السحاب , الى اعلى الهامات ,هذا الحُلم فرض واقعا استسلم الاخرون له , وعلم الجميع ان الصبى عاشقا للعَلم وان العَلم قد نادى , والولد قد لبى النداء , وهنا صرح الفتى لوالديه :” انا رايح منطقة التجنيد بكرة ان شاء الله ” ويرد الوالد بدهشة :” لسه بدرى يا بنى , دورك لسه لما اخوك يخلص تجنيده وانت تخلص دراستك” , وترقب الام الحديث وقلبها الصادق يذهب بها الى اعلى , حيث مستقر العَلم فى عليائه , فتمسك بيمينها على صدرها علّ هذا القلب يكذب او يسكت !, وفى اثناء جذعها غير المبرر امام الزوج وابنها , يستمر اقناع الفتى لابيه :” يا ابويا , انا روحى فى الجيش ومش حا ستنى لما اخلص الثانوية العامة واقدم فى الحربية , انا مستعجل , مستعجل جدا ” ويقاطعه الوالد :” يا بنى , كل حاجة بميعاد , كله فى اجله ان شاء الله “, تصرخ الام –غير قاصدة – وتتدخل مقاطعة حديث الاب وولده :” ايه هو ده , ايه اللى كله فى اجله , استنى لما افرح بيه عريس ان اشاء الله واشوف ولده ” , يرد الصبى بعينى الرحمة يُهدىء من جزع امه الملحوظ :” يا امى , انا لما اروح الجيش حابقى عريس فى بدلة الافرول , ادعى لى بس انت بالقبول , وساعتها اسمى حايفضل طول العمر احسن من الذرية اللى انت عايزاها” , تحدق الام فى وليدها وهى تسمع كلامه بقلب يعاند صاحبته ويأبى الراحة والسكينة لها, ويأخذ كلمات وليدها ناحية السماء , تجاه العَلم , يفسر الحُلم الذى ظل الطفل , ثم الصبى ,
وهاهو الفتى يحكيه لامه , وهى تعلم تفسيره وترفض تصديقه , ويفض الوالد مشهد الجزع والوله , وينهى الجدل الصامت والكلام المسموع :” خلاص يا بنى توكل على الله , ما دام ده حُلمك وانت عايز تحققه , يبقى مافيش مفر , من حُلمك , مش حاتعرف تعمل غيره ومش حا تنجح الا فى تحقيق حُلمك , هو جايلك وانت رايح له , توكل على الله ” ويفرح الفتى , ويشعر انه اقترب من عَلمه , بمباركة والده , ويطمأن والدته بحضن عميق يشى بكل اسرار القادم , ويربت على ظهر امه بحنان وكأنه يُهدىء من روع قلبها المسكين , وسريعا تنتصر الاقدار للفتى , ويزف النبأ قبوله بسلاح المدفعية بعد تخرجه من معهد ضباط الصف , وتتوالى بشارات الامل , وعلى بعد ثمان كيلومترات من الطريق الدولى ما بين رفح والعريش استقر الليث الفتىّ مع قاداته وزملائه فى كمين كرم القواديس فى – الجميلة الطاهرة – منطقة الشيخ زويد , ويؤذن لصلاة الفجر والكل يستعد عدا من هم بالخدمة والحراسة لعبور اليوم الجديد بصلاة خشوع لله على ارض سيناء التى صلى عليها معظم رسل الله وانبياءه , ويرفرف العَلم فوق الكمين مطلقا زغاريد الفرح , فها قد اقترب لقاء الاحباب , لكن السئوال ؟ ايهما سيذهب للاخر, العَلم ام البطل؟!, ومع دقات صباح يوم الخامس عشر من يوليو لعام سبعة عشر بعد الالفين عاما , تتقدم ضباع النار من اسود سيناء وتظنها معركة سهلة , ومع هدير الطلقات الشريفة تتساقط كلاب الجحيم , الكلب يلى اخيه , يأخذه ويجره على وجهه لقاع الحجيم ,
وتتفلت طلقات غادرة الى قدم البطل ولا تمنعه من الصعود الى اعلى الكمين ليسهل له حصد ارواح الشياطين من عليائه , تماما كما كان يحدث سارى عَلمه وهو يرتدى مريلته الكاكى بالابتدائية , وها هو يرتدى افروله الكاكى فى حفل التخرج , ويصاب زميله المجند بجواره اصابة ترفع روحه الى اعلى ناحية العَلم , وهنا ينفجر البركان غيورا على زميله فيحصد من العِدى العديد , وغيورا ان احدا سبقه الى العَلم ,فيُقبل غير مُدبر , ناحية المجد , وتأتيه رصاصات الى صدره تزيد من اصراره وهو يقتل فى اعداء الوطن قتلا , حتى يهديه قناص الشر ممرا الى عَلمه , فتمر رصاصة القنص من جبهته الى ناحية المجد, ويقترب العَلم ليحتضن البطل الذى اضحى شهيدا, ويأخذه الى اعلى .
وتبتسم هانم اخت الشهيد وهى تحكى عن اخيها البطل الذى احب العَلم وكان حُلمه ان يحتضنه ويظل فى السماء, ويُخلد اسامه فراج محمد احمد موسى الشنوانى عريسا تفخر به والدته , ويردد اسمه ابناء مدرسته التى اطلقت مصر عليها اسم الشهيد لترث الاحلام الصغيرة من بعده عشق العلم.