بين الدّرسِ والألعاب ” ٦ “

بقلم : محمد فيض خالد

كانت الأيام كفيلة لأن تُنصف الغريب المُجدّ ، أذن الله و تهيأت لي الأرض كي ينمو عودي ، ويترعرع شأني ، أن أمدّ جذوري الرخوة نحو أعماقِ الأعماقِ في هذا الكيان الموحش.
يوما بعد يومٍ تهدأ الثورة ، ويسكن هياجها بين جدرانِ المدرسة ، وإن لم تنم عني أعين العصابة بشكل اطمئن معه ، ولكن ما وصلت إليهِ يعتبر بمقاييسِ الكرّ والفرّ مكسب.
يبدأ يومي الدراسي مع البكورِ ، اغبّ في معاناةٍ يكون بطلها الطريق الترابي المضني ، ثم الحسابات الأخرى التي تتزاحم في رأسي ، احسب للضباعِ الجائعة ألف حساب ، ثم الحوش المُثقل بالأوحالِ ، والذي اعتبره أسّ المعاناة ، فحوش المدرسة ضيق للغايةِ، يستوعب بالكادِ طلابها ، حتى وإن تداخلت أجسادهم ، واختلفت أضلعهم ، يقف حضرة الناظر إسحق أفندي والسادة مدرسي الفصول ، فوق درجِ السّلم العريض ، لتبدأ عندها وصلة التمارين الصباحية بحركاتها البغيضة ، المحفوظة كُلّ يومٍ ، يؤديها البعض وهو يلتذ في نومهِ الذي يغرق العيون … مدرسةِ صفا.. مدرسة انتباه.. التمرين الأول .. تمرين ابتدي..
ليبدأ الصدام بين أكوامِ اللّحمِ المتراصة في زهقٍ، والتي تغبّ في سيولِ التراب المتصاعد من تحتها ، تعبق المكان وتتخطي بقوةٍ جدرانِ السور الطيني المنخفض ، لتصل أمواجها البيوت المحيطة بالمدرسةِ، عندها تبدأ وصلة السّبابِ اليومية : يقطع المدارس واللي طلعها .. بهايم سايبة .
رأيت أكثر من مرةٍ بعض الأساتذة وهو يتلكأ خارج السّورِ بمسافةٍ كافية ؛ هربا من العبقةِ ، والبعض هرول للفصولِ من سكاتٍ ، كان الحوش يمتلئ عادة بالماءِ والوحلِ ، فالحنفيةِ الوحيدة الموجودة بالمدرسةِ ، تعتلي الحوض الأسمنتي الكبير المستقر بالحوشِ ، تستعمل الشربِ ، وتلبية احتياجات دورة المياة الوحيدة ، التي لا يسمح لغير الناظر والمدرسين باستعمالها ، في أحيان كثيرة يغرق الحوش بمياه الحوض ، يضطر إسحق افندي ادخال التلاميذ الفصول مباشرة ، يقف فوق السلم وبجوارهِ مشاية حديدية كبيرة ، وهو يصرخ بأعلى صوته : افرك رجليك يا واد منك له ..افرك الطّين جاك البلا ..
في مراتٍ كثيرة كنت اشفق على عمي ابو ناصر الفراش ، من كمِّ الطّينِ المتراكم أسفل المشاية، ومزيج الروائح العالقة بأحذيةِ أبناء الطّين ، الذين أتوا من كُلّ فجٍّ عميق.
في المدرسةِ كان العُرف السّائد بين التلاميذ ، التسابق نحو الفصولِ، هي عادة ورثناها في قُرانا ، اعتبرها البعض عنوان القوة والزعامة ، فالتزاحم استعراض للعضلاتِ ، وقد اشتهر في مدرستنا الكثير من الرموزِ والأبطال ، ممن عاصرناهم أو سمعنا بهم ، ما إن ينفض الطابور حتى يبدأ الركض ، كان أبناء قريتنا هم الأبطال ، سألت نفسي أكثر من مرةٍ : لماذا لا يزاحمنا أبناء البلد ، بل وتركوا لنا الميدان واسعا ، على الرّغمِ من استطاعتهم..؟!
عندما عرفت السبب ، أدركت ما نحن فيهِ من سخفٍ ، كانت البيوت المحيطة بالمدرسةِ ، وبالأخصّ منزل المؤجر الذي استأجرت منه الوزارة المبنى ، يقوموا بنشرِ فرشهم وأعطيتهم بالقسمِ العلوي من المبنى ، فتصبح الفرصة مواتية لهروبِ جيوش البراغيث ، امتلأت الفصول بهذه الكائنات المتوحشة ،والتي لا تهدأ إلا على دماءِ الأبرياء ، ما إن تضع قدمك داخل المكانِ ، حتى تهيج كالكلاب المسعورة ، وتبدأ في وصلةِ مصّها، وطبعا يكون تأثيرها أشدّ وأقوى على أولِ فوجٍ مقتحم ، رأيت بعيني أحجاما غريبة مخيفة من البراغيث ِ ، شاهدتها ترسم خيوطا حُمر فوق أطرافِ ثيابنا ، أسرابًا مخيفة لم أرها من قبلِ.
كان عليّ بعد أن تنبهت لهذهِ الخديعةِ ؛ أن أوعّي أبناء بلدي الذين فطنوا الحقيقة ، فكانوا أشدّ تكاسلا من غيرهم ، لكن زادت مشقتنا، فعصا إسحق أفندي لا تعرف الرحمة لم تعثر في مشيتهِ، فكنا بين نارها ، وأنياب البراغيث الجائعة التي تنتظر ضحاياها على أحرِّ من الجمرِ …
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.