محمد فيض خالد يكتب : ” بين الدّرسِ والألعابِ ٥”

أصبحَ لِزاما عليّ التفكير مليّا في الحادثةِ الأخيرة وتبعاتها ، فلولا عناية الله ورحمته ، بما سخّره لي ؛ فارسل من ينقذني في الوقت المناسب ، لخرج الوضع عن السيطرة، ولكنت من الهالكين ، في الحقيقةِ كانت منفذتي التي ارسلتها عناية السّماء ، زميلة من زملاءِ الفصلِ، لم أكن قبل أن تتدخل بهذهِ الصورة ، وتسعى جاهدة في انقاذي لاهتم بها ، ولم اكن حتى على درايةٍ باسمها ، فأنا لا اهتم إلا بمصيبتي ، وهل في تربصِ الضِّباع الجائعة بيّ بالشيءِ الهيّن ، لكن وبعد أن مدّت لي يدها عرفتها عن قُربٍ ، وأوليتها من اهتمامي جانبا ، فوجدتها فتاة في غايةِ الرقة ، على الرّغمِ مما حباها بهِ الخالق من بسطةٍ في الجسمِ ، دائمة الابتسام لا تُفارق الضحكة فمها الواسع ، بدأت اهتم بضحكاتها العالية التي تجلجل في كُلّ مكان ٍ ، سألت نفسي أكثر من مرةٍ وأنا ارمي ببصري نحوها : كيف غابت عني هذه الضحكات ، كيف لم اشعر بها من قبل ، ألهذا الحدّ اصبحت لدي الرغبة في العزلةِ، والقناعة لأن اكون في منأى عما يجلب لي المتاعب ..؟!
تقدّمت مني ذات صباحٍ ، بعد أن توثّقت العلاقة بيننا لحدٍّ ما ، وهي تمدّ يدها بقطعةٍ من البسكويتِ ،اخبرتني وأنا اتعفّف عن قبولها ، بأن والدتها هي التي صنعتها ، قالت لي : لو ضايقوك تاني قولي وأنا اكلم أبويا ..
لم أكن اعرف من يكون والدها هذا ، الذي يستطيع دفع الضّباع لمجرد ذكر اسمه ، دبّت في أوصالي نشوة غريبة ، وشعرت بالمهابةِ التي اكتسبتها من اسمِ والدها ، الذي بفضلهِ انتزعتني ابنته من بين براثنهم ، لم اشغل نفسي طويلا ، مددت يدي والتقمت قطعة البسكويت دفعة واحدة وهي تراقبني بعينِ الرِّضا ، شكرت لها كرمها ، لتنساب ضحكتها الصاخبة من جديد ، ضحكة تمنيت ألا تنقطع أبدا ، طالما كانت جرس إنذار للأوغادِ ، في الحقيقة تغيّرت المعادلة نوعا ما ، لم اعد اشغل نفسي كثيرا بملازمة الاستاتذة والحرص على مصاحبتهم حتى الكوبري ، بعد أن هيأ القدر لي هذا الحارس الصنديد، الذي جعلني في مأمنٍ من بطشهم ، لكن انتقلت عيني عن الاستاتذةِ إليها ، لا تفارقني أبدا ، أكون في معيّتها بصفةٍ مستمرة ، اشتغل نفسي متعللا بحديثي إليها في ودٍّ حتى اخرج من باب ِ المدرسة ، بل كنت اتمنى ألا اغيب عن عينيها الواسعتين ، في الحقيقة كانت هي احرص على متابعني عن بُعدٍ ، تظل في مكانها في تحفزٍ شديد ، حتى اذهب بعيدا عنها ، واتخذ سبيلي على الجِسرِ في سلامٍ .
ظلّ الأوغاد في كمدٍ وحسرة ، وهم يرون مني الجرأة والقوة ، في الحقيقةِ لم تكن طباعي اميل للعنفِ والعداء ، بقدرِ حاجتي إلى الهدنةِ والمسالمة، وتلك على ما يبدو طبائع الغرباء ، الذين انقطعت بهم السّبل في هذهِ الديارِ النائية ، حين عزّ الصّاحب وعُدِم النّصير ، فأبناء البلد تفرّقوا من حولي ، يعانوا ما اعاني وأكثر ، وقليل منهم من استطاع أن ينحو بنفسهِ من هذا المصير ، فاتخذ لنفسه حيلا خاصة ، عندما عقد من الصّفقاتِ والمعاهدات التي لا تخرج في مضامينها ، عن دفع منحٍ وإتاواتٍ منوّعة ، كالبلحِ المحمص والنبق ، وفي أحيانٍ السندوتشات ، وتلك الجباية كانت تؤدى بانتظامٍ شديد ، لا يخلّ ببنودهِ مهما حصل ، وإلا تعرض المخالف لأشدّ العقاب .
تلك كانت الحالة التي عليها أبناء البلد ، فرقة وتشرّذم وشتات ، وهذا ما أثّر في نفسي كثيرا ، تأسّفت عليها وجاهدت في اجتماعِ كلمتهم ، كي اصنع معهم جبهة قوية ، فلو رأى الضّباع منا القوة لفروا ، لقد كان الضّعف مصيبتنا التي مكنتهم من رقابنا .
بالفعلِ سعيت بعد معاناةٍ وصبر إلى اجتماعِ الرّفاق، كانت خطتنا المُتفق عليها أن نخرج سويا من أمامِ ” الدّست ” الممدد فوق ” الجنبية” ، تلك الترعة الصّغيرة في مدخلِ قريتنا ، ثم نسلك سويا الجِسرِ في اتجاهِ المدرسةِ جماعةً واحدة ، ابدأ ساعتئذٍ في تلاوةِ وصايايّ بحماسٍ واندفاع : لازم نكون إيد واحدة فاهمين .. مش لازم نتعارك المهم أننا نبان مع بعض .. ننتظر بعض قدام المدرسة .. نروح ونيجي سوا .. كدا عمرهم ما يقدروا علينا ..
في الحقيقةِ لم يكن كلامي ليعجب طائفة من الرِّفاق ِ ، الذين اعتقدوا أني اسعى إلى زعامةٍ ، أو ابدو كزعيم جديد يتطلّع إلى فرضِ وصايتهٍ على أبناء ِ بلدتهِ ، تراهم وقد تنحّوا جانبا ، مدّوا الخطى في تصنّعٍ غريب وكأنّ كلامي لا يعنيهم ، تكشّفت أمامي الحقيقة سافرة ، شعرت بأن جهودي تتبدد وأحلامي تتبخّر أن يكون لهذا القطيع المُشتّت أثره في هذا المحيط المتلاطم ، لكن كيف السبيل و هذا قدرنا .؟
زادت حسراتي وأنا اشاهد البعض يسارع جهده كي يتملّص من معرفتنا ، بقطعِ كُلّ طريقٍ تربطنا بهِ ، حتى مسار الذهاب والإياب تغّير .
كان أمامي ان ابحث لنفسي عن الحمايةِ الذّاتية ، فسارعت نحو منفذتي القديمة ، استثمر ما استطعت حالة التعاطف التي منحتني إياها ، في الحقيقة كانت الفتاة تشعر برغبة شديدة في منحي هذا الشيء ، بل في أحيانٍ كثيرة شعرت باندفاعها نحوه ، لا اقول عن عاطفةٍ ما ، ولكنها قناعة لديها وواجب يُحتّم رفع الظُّلم عن الغريبِ ، الذي اعتبرته ضيفا حتى يرحل ، والشهامة تستوجب حمايته والوقوف إلى جوارهِ.
اصبحت اجد في هذا التودّد مسلاتي الوحيدة ، حتى في الوقتِ الذي تتخطفني فيها نظرات الضِّباع الجائعة ، احيانا يتسلل الخوف إليّ ، وأحيانا أخرى اتماسك قدر المستطاع ، فالغيرة الشديدة من الفتى الهابط بينهم ، المُتسلّط عليهم اتخذت منحى آخر ، وهو ها يخطب في الأخيرِ ، ودّ فتاتهم الأجمل في المدرسةِ ، في الحقيقةِ لم يخطر ببالي ما دارَ برؤوسهم ، لم تمكن سوى أيقونة الحماية ، وسلاح ردع واجهت بهِ أطماعهم .
وبمرورِ الوقت بدأت اتلهى بهذهِ الإشاعة، التي بدأت سخيفة مُغرضة ، ثم انتهت لاحقا إلى أثرٍ جميل في نفسي .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.