محمد فيض خالد يكتب : بين الدّرسِ والألعاب “٤”

على ما يبدو أنّ في النّفسِ البشريةِ نوازع ، ما إن تلوح للمرءِ ، حتى يندفع خلفها في عمايةٍ ، وهذا ما كان مني ، لقد تأثّرت لحدٍ كبير بما تحقّق على أرضِ الواقع من انتصاراتٍ متتالية ، لا أخفيكم ما يخالجني ، وأنا أرى الرّهبة وقد ذهبت من قلبي ، شاهدت خفافيش الظلام وهي تتخلى عني ، وتبعد بعيدا _ ولو مؤقتا_ وهي التي كانت بالأمسِ اجنحتها ، تُلامس رأسي في تحدي وغرور ، اتسع الأفق من أمامي وتكشّفت ميادينه الرّحبة وهي تحتضن الوافد إليها ، ولما لا ؟!
وهل التفوق والنجاح حِكرا على أحدٍ دون سواه ، اصدقكم القول ، فلو لم يكن من مكاسبٍ، إلا مشاعر الارتياح هذه لكفتني، حتى صوت ” اسحق أفندي ” الناظر أصبح عاديا لا يفزعني ، يا لسعادتي .
شيء واحد ، ظللت اكابد مشقّته، اتلظّى بنارهِ ، لا يغيب عني أبدا فهو يُعكِر صفو مراجي ، حتى اثناء لهوي ولعبي، اتذكره فتنقع عني سلوة المرح ، يطاردني قبل أن اضع رأسي فوق وسادتي ، ولا أبالغ حين اقول ، بدأت اخشاه أن يتسلّل فيقتحم أحلامي ويداهم رقادي.
ظلّ رفاق الفصل من أبناءِ البلد، ينظرون باستنكارٍ لهذا الغريب ، الذي على ما يبدو سيكشف باندفاعهِ وطيشهِ بلادتهم ، لا شيء يردعه ، عندما كشف عن نفسهِ مُبكِرا ، فأثار في نفوسِ الاستاتذة الحنق ، فصبّوا جام غضبهم عليهم ، تنادوا بينهم : ماذا يضره لو سكت ، لو دسّ رأسه بين الرؤوسِ ؟!
سعيت جهدي كي اوطد علاقتي بالبعضِ منهم ، اتقاء لشرهم ، لكنّه اقتراب محكوم عليهِ بالفشل ِ، علاقة يشوبها الحذر فالقوم في توجّسهم ، وكأنّهم اجمعوا أمرهم محاصرتي ، لحين الاجهاز عليّ وتلك مسألة يحسمها الوقت والصبر .
لا انكر سعادتي بتلك النّدية التي اتاحت لي مكانا في قلوب اساتذتي ، ومنحتني قدرا وافرا من ابتسامتهم اللينة، التي كانت بردا وسلاما في كُلّ مناسبةٍ ، وبالخصوص أثناء سيري في رحلةٍ الرّجوع من المدرسةِ.
لم يخطر ببالي _ وأنا الخدر _ أن القوم يأتمرون بي ، قطعوا شوطا في التآمرِ لكسرِ شوكتي ، جاءني ذات مرةٍ أحد الأصدقاء ، ليطلعني خِلسة بلسانِ النّاصح الأمين ، أنّي في مرمى نيرانهم ، وأنّ الفكرة اختمرت بينهم ، وحتما لن يعودوا عنها أبدا ، بعد أن اصبحت شاغلهم الشاغل ، والحديث الذي نغّص عليهم ساعاتٍ ، كانوا يقضونها لعبا ولهوا ، فتحولت مجالسهم إلى مجالس للحربِ.
كشفت نظرات البعض التي تطفح بالكرهِ، وهمساتهم التي تُشبه زمجرة الضّباع حول الضحية .
بدايةً لم اعبئ بهم ، تعمّدت مكايدتهم لأبعدِ مدى ، كنت استوقف بعض اساتذتي ممن تربطني بهم روابط وثيقة ، فاتحجّج بحججٍ تافهة ، كحلِ مسالةٍ ، أو تصحيح خطا ، كانت نظراتهم المفخخة تُلامس قلبي المتدثر بدثارِ الخوف ، اسير إلى جوارِ الاستاذ ، فالمسافة التي تفصلني عن الطّريقِ العمومي الذي ساسلكه عند عودتي لقريتنا ، يحتاج فقط إلى تغطيةٍ من هجماتِ الضّباع ، التي لو وجدت فرصتها لاجهزت عليّ ، واصبحت نسبا منسيا ، بجوارِ الكوبري اعبر إلى البرِ الشرقي فالطريق الترابي يمرّ أمامه ، وعليهِ تعوّد الاستاتذة الانتظار ، كي يستقلوا سيارات الأجرة فأغلبهم قد حضر من قرى مجاورة، يالفرحتي ، وبالترتيب الأقدار ، اسير مندفعا فوق الجِسرِ ، وأن كنت اشعر بوميضِ عيونهم الجائعة ، تقدح بالشررِ من البرِ الغربي للترعةِ ، وقفوا يراقبوا حركتي في حقدٍ متناهي ، جاهدت طويلا كي اتغافل عن تلك العيون الوقحة ، وتناسي نظراتها التي لا تكفّ عن تتبعي .
يلقون إليّ بحركات أيديهم ، تهديدا ووعيدا بأنّ غدا لناظرهِ قريب ، فإن افلتّ هذه المرة ، فهناك مرات ومرات ما دامت الأيام بيننا .
إن أكثر ما يقلقني وينغص عليّ حياتي ، أن تضطرني الأقدار السّير بمفردي المسافة ما بين المدرسةِ والكوبري ، كلّما تذكرت هذا الاحتمال المروّع ، يتفصّد جبيني عرقا ، ويقشعرّ جلدي ، وتبدأ تتوارد على عقلي الأفكار الفاسدة ، بأن المدرسة التي توقّت نفسي إليها قديما ، ستصبح عمّا قريب المهلكة التي أُلقي بنفسها فيها .
لكن الحمد لله فحتى الآن تسير الأمور في إطارٍ صحيح ، وإن سار الخطر في ركابي كُلّ لحظةٍ ، لكن الله خير حافظا وهو أرحم الراحمين .
ولعلّ من المفارقاتِ الغريبة ، أن تظلّ مخاوفي بعيدة عن رأسي تماما ، أثناء تواجدي في الفصلِ، اشعر بشجاعةٍ وجسارة ، تكون السّيادة فيها منفردا ، فبلادة الرِّفاق جعلت مني حظيّا مسيّدا ، يخطبوا ودي ، ويسعوا في قربي .
لكنّها غريزة الغاب ، ونظرة الصياد من الضِّباعِ ، حين يختلي بفريسته القصية ، ما إن يدق الجرس مُعلنا انتهاء اليوم الدراسي ،حتى تبدأ وخزات قلبي وخفقانه ، المّلم أغراضي ببطئٍ شديد ، اتحسّس حقيبتي تحسّس المُغشى عليهِ.
اخرج إلى الطرقةِ على أملٍ ، أن اجد من الاستاتذةِ من اصحبه حتى الكوبري ، فتلك أمنية كُلّ يومٍ ، انتظر ويطول انتظاري ، احدّق من خلفِ أعمدةِ السلم ، اتورى فيها وكأني اغلق الحقيبة ، ولكن الحقيقة انني انتظر المُنجد الذي يهشّ عني الضباع .
لم يحدث وأن خابَ ظني إلا مرة واحدة ، انتظرت وانظرت ، لكن كان للقدرِ ترتيبه الخاص ، فقد غادر الاستاتذة المدرسة بعد الفسحةِ مباشرة ، ذهبوا جميعا يؤدوا واجب العزاء في زميلٍ لهم ، وقفت على جانبي الدّرجِ ، وقد خشعت الأصوات ، ونامت العيون إلا تلك العيون التي حامت خارج السّورِ، تتلمظّ في جنونٍ ، تنتشي فرحا لهذا الصيد السهل، وققت في ذهولٍ تلفني أحزاني ، لم يوقظني إلا صوت عمي أبو ناصر الفراش الأجشّ : واقف ليه يا بني هنا .. يلا على بيتكم .. روح علشان هنقفل الباب خلاص .
هبطت الدّرج ازحزح قدمي وهي لا تحملني ، لقد واتت الأوغاد الفرصة على طبقٍ من ذهب ، جعلت اوبّخ نفسي ، كيف جنى عليّ تلكؤي ، فاوقعني هذا مأزقٍ لن اخرج منه سالما .
خرجت متوكلا على الله من بابِ المدرسة ، رأيتهم وهم يقتربوا مني ، شمّروا عن سواعدهم ، وطوّحوا عصيّهم في الهواءِ بزهوٍ شديد ، وكست وجوههم فرحة الانتصار ، فما إن تحلّقوا من حولي ، وهمّوا بالانقضاض عليّ ، حتى جاءني الأمل الذي خلّصني منهم ، تنفست الصّعداء وأنا لا اصدق ، مشوا في خزيٍ أمامي ، طمأنني المُنقذ الذي سار معي حتى الكوبري .
لا اصدق أني لازلت على قيدِ الحياة .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.