صار الإرهاب صناعة عالمية، لا وطن له … قد يتمركز في أماكن، ومناطق محددة، إلا أن ذلك لا يحول بينه وبين أن يجوب العالم، شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، فيصل إلى أماكن، ظن البعض، أنها في مأمن، ومنأى عنه … فمن كان يظن أن يصل الإرهاب، ببشاعته، وبعملياته القذرة، إلى نيوزلندا، تلك الجزيرة، المنعزلة، جغرافياً، في جنوب غرب المحيط الهادي، بجوار أستراليا … في “آخر الدنيا”، كما نسميها. كان ذلك الدافع، لعديد من دول العالم، لأن تتضافر جهودها، للتصدي للإرهاب، سواء بالتمويل، أو التوعية، من خلال العديد من المؤتمرات، والفعاليات، الدولية، التي شرفت بالمشاركة في العديد منها، مثل مؤتمر، عقد في تايوان، وضم أربعين من خبراء الأمن القومي، والخبراء العسكريين، من مختلف دول العالم، ومن ممثلي حلف الناتو، تحت عنوان “هل سيصل الإرهاب إلى جنوب شرق آسيا…الاحتمالات والتصدي”، في إشارة إلى توقع، الجميع، وصول الإرهاب، بصوره المختلفة، إلى دولهم، ورغبتهم في الاستعداد للتصدي له.
عاصرت، أثناء دراستي بكلية كمبرلي الملكية، في انجلترا، في منتصف السبعينات، من القرن الماضي، تصدى بريطانيا لثوار أيرلندا، الراغبين في الانفصال عن المملكة المتحدة، والذين انضموا لمنظمة، أطلقوا عليها اسم “Irish Republic Army” (IRA)، فكانت العاصمة البريطانية، لندن، وكل أنحاء انجلترا، تعاني من عملياتهم الإرهابية، كانفجار العربات المفخخة، في شوارعها. وكان المواطنون، حينئذ، يخضعون لإجراءات أمنية، صارمة، ويخضعون للتفتيش قبل دخول جميع محطات مترو الأنفاق، ودور السينما والمسرح، وحتى نحن، الدارسين العسكريين، كنا نخضع لتفتيش، صارم، على بوابة الكلية، واستمرت انجلترا تكافح الإرهاب لمدة سبع سنوات. وفي نفس الوقت، كانت إيطاليا تعاني من العمليات الإرهابية، لمنظمة الألوية الحمراء، المسلحة، التي زعزعت استقرار البلاد، لإصرارها على انسحاب إيطاليا من حلف شمال الأطلسي، حتى نجحت القوات الإيطالية في تفكيك المنظمة. كما عانت إسبانيا، لسنوات طويلة، من العمليات الإرهابية، التي قامت بها منظمة إيتا المسلحة، للانفصال بإقليم الباسك، الواقع بيت إسبانيا وفرنسا.
في الحقيقة إن تلك العمليات لم يطلق عليها، حينها، لفظ عمليات إرهابية، وعرفت باسم العمليات المسلحة، وترجع فكرة أصول الإرهاب التاريخية إلى ما بعد حرب فيتنام، أو “مستنقع فيتنام”، كما أطلق عليها الشعب الأمريكي، الذي تكبد خسائر فادحة، إذ أفادت الإحصاءات أنه من بين كل عشرة عائلات أمريكية، وقع إما قتيل، أو جريح، أو مريض نفسي، فاجتمع مجلس الأمن القومي الأمريكي، بعد هذه الحرب، وقرر أنها ستكون آخر الحروب التي ستخوضها أمريكا، بأبنائها، كما قرر اتباع أسلوب جديد، وهو “الحرب بالوكالة”، وهو ما يتضح معناه من مسماه بأن أمريكا سوف توكل، في أي نزاع، أو صراع، مستقبلي، من ينوب عنها في القتال، بعد دعمه مادياً، وعسكرياً، بالمعدات والأسلحة.
بعد ذلك بسنوات، حدث انقلاب عسكري في أفغانستان، ضد الملك ظهر شاه، واعتلا الشيوعيون السلطة، فسارعوا، كدأبهم، لإبرام معاهدة صداقة، وتعاون، مع الاتحاد السوفيتي، في هذا الوقت، نتج عنها وصول القوات السوفيتية لأفغانستان، مما أرعب دول حلف الناتو، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، حيث اقترب السوفييت من منابع البترول في الخليج العربي. فكان طرد السوفييت، من أفغانستان، أول اختبار أمريكي لمبدأ الحرب بالوكالة، ومن ثم بدأت الولايات المتحدة بتزويد، رجال طالبان، الذين كان منهم، أسامة بن لادن، بالأسلحة، والأموال، للتصدي للقوات السوفيتية، بل وزودوهم بشعار رنان، وهو “التصدي للملحدين السوفييت في أفغانستان”، فتسلم بن لادن، وحده، خمس مليارات دولار أمريكي، من الولايات المتحدة، علاوة على الأسلحة، والمعدات، العسكرية، وبعد عشر سنوات تم طرد الروس من أفغانستان.
إلا أن السحر انقلب على الساحر، أو كما يقول المثل الشعبي المصري “حضّر العفريت، ومش عارف يصرفه”؛ فقد أعلن بن لادن، ورفاقه، عداءهم لأمريكا، وأسسوا تنظيم القاعدة، كأكبر تنظيم إرهابي، في العصر الحديث، بزعامة بن لادن، وأعلنوا أن أمريكا هي “الشيطان الأعظم”، في العالم كله، والجهاد ضدها فريضة! وبدأ تنظيم القاعدة ينشر الإرهاب في العالم، وفي أغسطس 1998، استهدف الولايات المتحدة، مباشرة، بتنفيذ عمليتي تفجير ضد سفارتي الولايات المتحدة، في كينيا، وتنزانيا، وأعقبها بالضربة القاضية، بأكبر عملية إرهابية، ضد الولايات المتحدة الأمريكية، على أرضها، في 11 سبتمبر 2001، عندما نجح تنظيم القاعدة في اختطاف 4 طائرات ركاب، واستخدامهم في تفجير برجي مركز التجارة العالمي، في نيويورك، واستهداف مبنى وزارة الدفاع الأمريكية، البنتاجون، في العاصمة واشنطن. وأمام قوة الضربة، وعنفها، أطلق الرئيس الأمريكي، حينها، بوش الابن، حملته ضد الإرهاب، فاجتاح أفغانستان، وأطاح بحكومة طالبان، بينما اختفى بن لادن، عن الأنظار، بعدما رسخ فكر القاعدة.
وبعد عشر سنوات، من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، تم القضاء على بن لادن، يوم 2 مايو 2011، في عهد الرئيس أوباما. إلا أنه قد خرج من عباءة بن لادن، أبو مصعب الزرقاوي، الذي استحدث فكرة تأسيس الدولة الإسلامية، فهاجر من أفغانستان إلى العراق، وأسس، في 2004، تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، المعروف باسم (داعش). وبرغم الصبغة الإسلامية، التي حاول مؤسسوه إضفاءها عليه، إلا أنه لم يختلف عن سابقيه، في كونه تنظيماً إرهابياً، يستقطب الشباب، لتنفيذ أعمال خسيسة، لا تمت لسماحة الأديان، وتعاليم الإسلام، بأي صلة. امتدت شبكة تنظيم داعش، العنكبوتية، إلى مختلف بلاد العالم، وحتى الدول الأوروبية، سواء كمصدر للشباب، أو كمسرح للعمليات، حتى تم القضاء على الزرقاوي في يونيو عام 2006. خلفه أبو بكر البغدادي، فتوسع تنظيم داعش، وانبثق منه العديد من الحركات الجهادية، المتطرفة، وتوزعت عناصره في معظم دول شمال أفريقيا، والجزيرة العربية، ومناطق أفغانستان، وباكستان، وبعض الدول الأوروبية، التي كانت، يوماً، تحت الولاية العثمانية، حتى جاءت نهاية أبو بكر البغدادي، في أكتوبر 2019، في عهد الرئيس ترامب، بعملية مفاجئة، اعتبرها ترامب نصراً كبيراً.
ويبقى السؤال؛ هل قُضي على الإرهاب، بالقضاء على زعمائه السابقين، لنتوقع القضاء عليه بالقضاء على البغدادي، كما أعلن ترامب؟ إن الفكر الإرهابي، الذي أسس شبكات عنكبوتية، لازال موجوداً، وإن قلّت عملياته، حالياً، لأن عناصره في مرحلة “كمون”، لالتقاط الأنفاس، وإعادة تنظيم الصفوف، وترتيب الأوراق، قبل استعادة النشاط، مرة أخرى. وهو ما يدفعنا للمناداة، بضرورة إخلاص النية في القضاء على الإرهاب، باقتلاعه من جذوره، وليس رؤوسه، بتجفيف منابعه، والتصدي لمثلث الشر الداعم له، متمثلاً في تركيا وإيران وقطر، وهو ما لا أظن أنه قد يختلف معي أحد، على أولويته في القضاء على الإرهاب.