في 14 يناير عام 2016، أي منذ ما يزيد على أربع سنوات، كتبت مقالي الأسبوعي، في هذا المكان، عن أخطر وثيقة أمريكية صدرت عن مصر، والتي أكدت أن مصر “تطفو” فوق بحيرة من البترول، والغاز الطبيعي، في شمال شرق الدلتا، والبحر المتوسط، ومؤكدة أنها ستحقق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي في عام 2018، وستبدأ في تصدير الفائض بحلول عام 2020، في ظل تزايد الاكتشافات البترولية، بفضل نجاح الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في ترسيم الحدود البحرية، مع الدول المجاورة … وهو ما تحقق، بالفعل، وكأن الوثيقة الأمريكية، تقرأ الطالع.
والحقيقة إن الوثيقة الأمريكية اعتمدت على دراسات وافية، لعدة أبعاد، شدد الجيولوجي، منها، على امتلاك مصر لأكبر احتياطي من الغاز الطبيعي، في هذه المنطقة، إذ أشارت التقديرات الأولية، للمسوح الجيولوجية، إلى وجود 240 ترليون متر مكعب، من الغاز الطبيعي في المنطقة الواقعة بين مصر وغزة وإسرائيل ولبنان وسوريا وقبرص، والتي يطلق عليها “شرق المتوسط”، فكان هذا الظهور الأول لذلك لمصطلح الجيوسياسي الجديد. وأشارت الوثيقة، في هذا الصدد، إلى أن القرارات التي اتخذها الرئيس السيسي، حينها، بدعم القوات المسلحة المصرية، ورفع كفاءة قواتها، خاصة البحرية، استهدفت التأمين، المستقبلي، لهذه الثروة الطبيعية الجديدة.
فور ترسيم الحدود البحرية، ساد المنطقة حراك، سلمي، على كافة الأصعدة؛ فتم الإعلان عن التعاون الثلاثي بين مصر وقبرص واليونان، وكانت آخر قمة بين الدول الثلاث، قد عقدت عام 2018، في الإسكندرية، في إطار فاعليات أسبوع إحياء الجذور، الذي استضافت، خلاله، مصر عدداً من العائلات القبرصية، واليونانية، التي عاشت في مصر في السابق. كما نجحت إسرائيل في استخراج الغاز الطبيعي من حقليها، “ليفياثان، “وتمار”، في منطقة شرق المتوسط، محققة اكتفاءً ذاتياً، بعدما كانت تستورد الغاز الطبيعي من مصر حتى عام 2011، بل وفائض إنتاج، للتصدير إلى أوروبا، بعد معالجته في مراكز الإسالة المصرية. وفي ذات السياق، وقعت مصر، عام 2018، اتفاقاً لمد خط أنابيب، بتكلفة حوالي مليار دولار أمريكي، من حقل أفروديت القبرصي، الذي تقدر احتياطاته بين 3,6 و6 ترليون قدم مكعب، إلى مصر، لإسالته في مراكزها، وإعادة تصديره إلى أوروبا، لتصبح مصر، بذلك، مركزاً، إقليمياً، للطاقة والغاز.
كما نجحت مصر، في يناير 2019، في تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط”، الذي يضم في عضويته، إضافة إلى مصر، كلأ من اليونان، وقبرص، وإيطاليا، والأردن، وفلسطين، وإسرائيل، كمنظمة دولية، تهدف لاحترام حقوق الأعضاء بشأن مواردهم الطبيعية، وبما يتفق مع مبادئ القانون الدولي. وقد عقد المنتدى، اجتماعه الوزاري الثالث، في القاهرة، في الشهر الماضي، بحضور مؤسسيه السبعة، وبحضور ممثلين عن الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وخلاله، طلبت فرنسا الانضمام، رسمياً، لعضوية المنتدى، كما طلبت الولايات المتحدة الأمريكية، الانضمام كمراقب بصفة دائمة.
وكما شهدت المنطقة حراكاً سلمياً، فقد شهدت، أيضاً، ولازالت تشهد، توالي ظهور الصراعات المرتبطة باكتشاف تلك الثروة الطبيعية؛ أولها، الصراع بين الولايات المتحدة، وروسيا، بسبب امتداد نفوذ الأخيرة، الذي بدأ يتنامى في المنطقة، من خلال سوريا، ومحاولته اختراق المنطقة، مرة أخرى، من اتجاه ليبيا، وفي سياستها لكبح جماحه، اتجهت الإدارة الأمريكية لدعم شركات بلادها، ومنها، على سبيل المثال، شركة نوبل للطاقة، للتواجد، والمشاركة، في عمليات البحث والتنقيب عن الغاز الطبيعي، في هذه المنطقة، وخاصة مصر، لما له من أثر على تقليل اعتماد أوروبا على الغاز الرواسي.
وقد يكون ثاني هذه الصراعات، ما يحاول النظام التركي افتعاله، في ظل تراجع دوره الإقليمي، وتدهور علاقاته بالقوى السياسية، في حوض المتوسط، بدءاً من اليونان وقبرص، في ظل صراعهم التقليدي، امتداداً إلى مصر، بسبب احتضانه لعناصر جماعة الإخوان الإرهابية، على الأراضي التركية، ودعمه لعناصرها الموجودة في مصر. فقد ارتبك النظام التركي، وتخبط بشدة، لظهور ثروات جديدة، في هذه المنطقة، لا نصيب له منها، فلجأ “للبلطجة” السياسية، والإعلامية، بإعلان رفضه لاتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص، ومن ناحية أخرى، حاول إقناع إسرائيل بإلغاء اتفاقها مع مصر، على ضخ فائض إنتاجها من الغاز الطبيعي، لإسالته، وتصديره، من خلال مصر، إلى أوروبا، عارضاً مد خط غاز بين إسرائيل وتركيا، لاستقبال الغاز الإسرائيلي، وهو ما رفضته الأخيرة.
لم تكتف تركيا بذلك، بل بدأت تحرشها بعمليات التنقيب، عن الغاز، أمام السواحل القبرصية، بل وشرعت في التنقيب أمام سواحل قبرص التركية، الأمر الذي تصدى له، بحزم، الاتحاد الأوروبي، باعتبار قبرص أحد أعضائه، وتأمين استثمارات “شركة إيني” الإيطالية، العاملة في تلك المنطقة. ولما ضاقت به السبل، تحايل الرئيس التركي مع حكومة فايز السراج، في طرابلس الليبية، ووقعا اتفاقين، أحدهما لترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، والثانية للتعاون الأمني، مخالفين كل القوانين الدولية، وصلاحيات السراج التي لا تشمل التوقيع على مثل تلك الاتفاقيات، وضاربين عرض الحائط بالعقوبات الدولية المفروضة على ليبيا، وكل ذلك بهدف الاستيلاء على النفط الليبي، والقيام بعمليات بحث عن الغاز الطبيعي أمام سواحل ليبيا.
وعلى صعيد آخر، ظن البعض، أن الاتفاق الذي وقعته إسرائيل، في مطلع الشهر الماضي، مع قبرص واليونان، لإنشاء خط أنابيب، بتكلفة 7 مليارات دولار، وسيتم إنشاؤه على مدار 7 سنوات، لنقل الغاز الإسرائيلي إليهما، لتوزيعه على أوروبا، قد يؤثر على خطة مصر لتصبح مركزاً، إقليمياً، للطاقة، ولهؤلاء أقول، إن ذلك الخط قد بدأت الدول الثلاث، الموقعة عليه، مباحثاتهم بشأنه، منذ 2013، كما أنه لا يهدف إلى التنافس مع مصر، بل يتكامل مع خطة مد أوروبا بالغاز الطبيعي من منطقة “شرق المتوسط”، إذ سيتم ضخ الغاز الإسرائيلي، عبر ذلك الخط، في صورته الحقيقية، بينما حصة مصر، من فائض الغاز الإسرائيلي، سيتم إسالته، لتصديره، على سفن، إلى أوروبا. فضلاً عن أن توقيع تلك الاتفاقية، لا يعني إنشاء خط الغاز، بالفعل، وإنما دراسة إمكانية تنفيذه، في ظل ارتفاع تكلفته، وامتداده بمنطقة جيولوجية بالغة صعوبة.
نحمد الله، على بُعد نظر القيادة السياسية المصرية، وخطواتها الاستراتيجية، الاستباقية، لترسيم الحدود البحرية، ودعم القوات المسلحة المصرية، وتوطيد العلاقات السياسية، والثقافية، والعسكرية، مع اليونان وقبرص، وأخيراً، تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط”، ليكون أوبك الجديد للغاز … فمن كل ما سبق، يتضح، جلياً، أن المنطقة مهددة بالاشتعال، وأن الصراع فيها لن يقتصر على المياه، فحسب، بل سيمتد طمعاً في ثرواتها الجديدة.