كنت في الرابعة عشر من عمري، عندما توليت رئاسة الكشافة البحرية، في مدرسة بورسعيد الثانوية، وأُعلن، حينها، عن انعقاد “مؤتمر الكشافة العالمي”، الذي يعقد بصورة سنوية، في العاصمة الفلبينية، مانيلا، ورغم مشاركتي في مؤتمر العام الفائت، في تونس، ومعي صديقي أسامة المغربل، إلا أن الأمر مختلف، تماماً، في هذا العالم، وبالغ الصعوبة، بل ويرقى لحدود المستحيل … فالرحلة البحرية، إلى الفلبين، تستغرق 30 يوماً، ذهاباً وإياباً، إضافة لأسبوعين، كاملين، هما مدة المعسكر. فضلاً عن المشكلة الرئيسية، المتمثلة في قيمة الاشتراك، البالغ 40 جنيه، وهو ما كان يعادل دخل موظف حكومي، كوالدي، رحمه الله، لثلاثة أشهر!
عدت من المدرسة في ذلك اليوم، ودنوت من والدتي، أسألها في استحياء، عن إمكانية المشاركة في ذلك المعسكر، رغم يقيني، المسبق، برفضها لطلبي، لارتفاع قيمة الاشتراك، فإذا بها تجيبني، “أنا موافقة ولكن بشرط” … وأمام تلك المفاجأة السعيدة، الغير متوقعة، وافقت، فوراً، على تنفيذ شرطها، حتى قبل معرفته، فاستطردت، رحمة الله عليها، بأنها ستصحبني، مساءً، إلى مكتبة القنصلية الأمريكية، وكانت، آنذاك، أكبر مكتبة في بورسعيد، وستختار منها كتاباً، لأقرأه، ثم ألخصه، فإن نجحت، في هذا الاختبار، فستسمح لي بالمشاركة في هذا المعسكر الدولي، وستدفع قيمة الاشتراك.
انتظرت، بفارغ صبر، حلول المساء، لأخطو، أولى خطواتي، نحو مانيلا، وبالفعل، توجهنا، سوياً، إلى المكتبة، فاختارت والدتي كتاباً بعنوان “سر تقدم السكسونيين”، يستعرض اكتشاف الآلة البخارية، كبداية للثورة الصناعية، التي انطلقت من بريطانيا، وما حققته من تقدم هائل، باستخدام تلك الطاقة الجديدة … نظرت، بيأس، لعنوان الكتاب، وصفحاته، التي تجاوز عددها الأربعمائة، فشعرت بأن خطواتي تتراجع … من أين أبدأ، وكيف؟! وفي صباح اليوم التالي، عهدتني أمي إلى أحد المعلمين، في المدرسة التي كانت تتولى نظارتها، ليعلمني كيفية قراءة الكتب، وإعداد ملخصاتها، دون إغفال فكرة واحدة من أفكارها. فواصلت الأيام بعدها، التهم صفحات الكتاب، واستوعب أفكاره، وأكتب عناصر رئيسية، أعانتني على تقديم ملخصاً، لأمي، في عشر ورقات، شعرت، من نظراتها الحنونة، وهي تقرأه، أنني نجحت في الامتحان. وبالفعل نفذت أمي وعدها، وصحبتني إلى مبنى البريد، بالحي الإفرنجي، فسحبت، من رصيدها، مبلغ 40 جنيه، وأرسلتهم بحوالة بريدية، إلى القاهرة، نظير مشاركتي في المعسكر الدولي في الفلبين.
مرت السنوات، والعقود، وابتُعثت إلى إنجلترا، للدراسة بكلية كمبرلي الملكية، فشعرت أن كتاب “سر تقدم السكسونيين”، الذي اختارته لي أمي، كان أولى نوافذي للاطلاع على تاريخ هذا البلد العريق. وفي نهاية الفصل الدراسي الأول، طلب أحد أساتذتي، من جميع الدارسين، أن يختار كل منهم كتاب من مكتبة الكلية، لقراءته، وتلخيصه، فوقع اختياري على كتاب، لوزير الخارجية الأمريكي، الأسبق، وفارس علم السياسة الخارجية، هنري كسينجر، بعنوان “كيف تصنع السياسة الخارجية الأمريكية”، فقرأته، واختير ملخصي، عنه، ضمن أفضل الملخصات، التي تم عرضها، وتعميمها، على جميع طلبة الكلية، فتذكرت ما علمته لي أمي.
استعدت ذكرى أمي، المحفورة في وجداني، أثناء زيارتي، في الأسبوع الماضي، لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الواحدة والخمسون، والذي أعتدت ألا أفوته، منذ أعواماً طوال، فوجئت، هذا العام، ليس، فقط، بإقامته على أرض معارض مصر الدولية، التي قرر الرئيس عبد الفتاح السيسي إنشائها، لتليق بعظمة مصر، ومكانتها في سياحة المعارض الدولية، بداية من تخطيط المكان بصورة احترافية، تحقق كافة مطالب أي معرض دولي، باختلاف تخصصه؛ سواء من حيث أعداد البوابات، وأماكن انتظار السيارات، أو سهولة الحركة، والتنقل، من مبنى لآخر، إلى تجهيزها بالقاعات اللازمة للاحتفالات، والندوات، وقاعات للعروض الموسيقية، والمسرحية، ودورات المياه، اللائقة، والكافية لاستيعاب الحشود الكبيرة، وصولاً إلى الخدمات المتوفرة بأرض المعارض الجديدة، من مطاعم ومقاه منتشرة حول المكان، بشكل حضاري، دقيق، ومنظم، وبأسعار مناسبة لمختلف الفئات.
إلا أن المفاجأة الأكبر، كانت في الجمهور، وتنوعه، فقد رأيت تجمع الأسر؛ الأب والأم والأبناء، يجرون حقائب سفر، في إشارة لهدفهم الرئيسي، من الزيارة، من أنها ليست قاصرة على المشاهدة، أو التنزه، وإنما للشراء، كما رأيت حافلات قادمة من مختلف أقاليم مصر، فهذا من طنطا، وهذا من الشرقية، وذلك من سوهاج، وحتى نادي الصيد، في بورسعيد، نظم رحلة لأعضائه، لزيارة معرض الكتاب، ونظمت الجامعات الإقليمية، رحلات لطلابها، فكان يوماً ثقافياً، وترفيهياً للأسرة المصرية، وضعت له اللجنة المنظمة للمعرض، من هيئة الكتاب، ضوابط للأسعار، لتكون أقل من نظيرتها، في أي مكتبات أخرى، كأحد عوامل الجذب، والتحفيز. ودخلت إلى صالات عرض الكتب، فكان الشباب هم السمة الرئيسية، رغم زعم، البعض، أن شباب هذا الجيل لا يقرأ، إلا أنني رأيت عكس ذلك، فالشباب مقبلون على مختلف أنواع الكتب، كل وفق ميوله. وعلمت من ممثلي دور النشر، أن خريطة الشراء تغيرت عن العام الماضي، حيث تشير إحصاءاتهم إلى تراجع شراء الكتب الدينية، وتصدر الكتب الثقافية للمبيعات، يليها كتب الأطفال. ولم يفوتني زيارة جناح القوات المسلحة المصرية، الذي قدم لأول مرة إصدارات عسكرية، ثقافية، شعرت بالفخر وأنا اطلع عليها.
وحتى لا يظن، البعض، أن الهدف، الأوحد، من المعرض هو بيع الكتب، فحسب، فقد عج المعرض بعروض ثقافية، وفنية، بعضها للأطفال، كمسرح العرائس، وعرض الأراجوز، والساحر، فضلاً عن نحو 9 مسرحيات، وعروض سينمائية، شاركت فيها مراكز تنمية المواهب، من بعض قصور الثقافة، بمختلف المحافظات، وورش فنية، تحت شعار “بإيدك”، لتدريب الأطفال على بعض الأعمال اليدوية، باستخدام الصلصال، والخرز، وغيرهم من المواد. كما خصصت ندوات، كثيرة، للكبار، لمناقشة مختلف الموضوعات، وقضايا العصر، فكان المعرض، بحق، عُرس ثقافي لكل المصريين، بجميع فئاتهم، وأعمارهم.
ومن هنا، أرجو من الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، ومعها الدكتور هيثم الحاج، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، أن يستهدفا زيارة هذا المعرض الدولي الهام، بمظهره المتميز، الذي ظهر به هذا العام، لجميع محافظات مصر، لأن الثقافة ليست حكراً على القاهرة، فقط، وإنما حق لكل أبناء مصر.