أنا استوقفنى تصريح مبعوث الأمم المتحدة الخاص فى ليبيا، غسان سلامة، بأن لديه ورقة تُمكنه من محاسبة أردوغان، فى حال إرساله مرتزقة إلى ليبيا، فى إشارة منه إلى تعهد الرئيس التركى فى البند الخامس من البيان الختامى لمؤتمر برلين، بعدم التدخل فى ليبيا، أو إرسال قوات مرتزقة إلى هناك.
دون أن يلتفت هذا الرجل إلى أن أردوغان الطامع فى نفط ليبيا، والذى يعانى اقتصاد بلاده، بسبب سياساته، من انهيار متزايد، فقدت خلاله العملة المحلية نحو ٤٠٪ من قيمتها، وارتفعت أسعار السلع إلى ما يقارب الــ٢٠٠٪، وتزايد معدل التضخم، وتعاظمت نسب البطالة والفقر، يمتطى الفوضى للاستيلاء على ثروات بلد عمر المختار، مستعينًا فى ذلك بأذنابه وصنائعه من عناصر تنظيم الإخوان، متبعًا نفس السيناريو الذى اتبعه فى تخريب سوريا، من خلال توفير السلاح للمتطرفين والإرهابيين، أو كأنه لم يسمع عن أن الجيش الوطنى الليبى، وبعد ثلاثة أيام فقط من مؤتمر برلين، أسقط طائرة تركية مُسيّرة، أقلعت من مطار معيتيقة لاستهداف قطاع من الجيش الليبى، على مقربة من طرابلس، بالإضافة إلى حيلولة الجيش دون تسلل العديد من الدواعش إلى قلب العاصمة الليبية.
حتى كتابة هذه السطور، بلغ عدد المرتزقة السوريين الذين نقلوا إلى ليبيا ٣٦٦٠ فردًا، فى زيادة جديدة تشير إلى إصرار تركيا على استمرار التدخل العسكرى فى ليبيا، وقد أظهر مقطع فيديو، نشرته وسائل إعلام تابعة للحكومة السورية، وأخرى للمعارضة، بعض المرتزقة من الميليشيات الموالية لتركيا، داخل طائرة ركاب، قيل إنها للخطوط الإفريقية الليبية، أثناء توجهها إلى العاصمة طرابلس، غادروا سوريا بموجب عقود لمدة ستة أشهر، تمنح ألفى دولار لكل مقاتل شهريًا، وهو ما يعادل ٤٠ ضعفًا مما كانوا يحصلون عليه فى سوريا.. كما وعدت حكومة السراج هؤلاء المرتزقة بدفع الفواتير الطبية للجرحى، وأنها ستتحمل مسئولية إعادة القتلى منهم إلى سوريا، بالإضافة إلى الوعد الأهم، وهو منح الجنسية التركية لهؤلاء الإرهابيين.. وهروبًا من أى مسئولية مستقبلًا، فى حال أرادت المحكمة الدولية فتح تحقيق فى هذا الشأن، فقد عمدت تركيا أن يسلك المرتزقة الطريق الذى يبدأ من مناطق العدوان التركى فى الشمال السورى، باتجاه معبر حور كلس العسكرى، ومنه إلى مطار غازى عينتاب ثم إسطنبول وبعدها إلى الأراضى الليبية جوًا.. وتتوجه الطائرات على شكل رحلات داخلية وهمية، لا يتم إدراجها فى قائمة الرحلات، كما لا يتم عبور ركابها من الحدود الرسمية، حتى لا يتم تسجيل هؤلاء الوافدين.. فعن أى تعهد يتحدث غسان سلامة؟
لقد غاب عن البعض فهم رفض المشير خليفة حفتر التوقيع على مفاوضات موسكو.. ولم يفطن هذا البعض إلى أن الرجل لم يقتنع بوجود تركيا وسيطًا فى المحادثات، لأنها ضلع من أضلاع الحرب فى بلاده، ولها جنود على الأرض، وبالتالى لا يمكن أن تكون راعيةً لأى مبادرة سلام.. يعلم المشير، كما يعلم غيره، أن عمليات تجنيد أردوغان للمرتزقة ما زالت مستمرة فى المناطق الخاضعة لسيطرته شمالى سوريا، ليصل عددهم إلى نحو ستة آلاف مرتزق يتوجهون إلى ليبيا.. وهو ما عرّض أنقرة لانتقادات حادة خلال مؤتمر برلين، واتهمها الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، صراحة بمسئوليتها عن إرسال المرتزقة إلى ليبيا، وقال: «من يعتقدون أنهم يحققون مكاسب من ذلك لا يدركون المجازفات التى يعرضون أنفسهم لها كما يعرضوننا جميعًا»، فهو يعرف أن الأتراك استبقوا التجمع الدولى فى برلين، بحشد المرتزقة للانخراط فى معارك ليبيا، لعلهم يُحدثون تغييرًا فى موازين القوى، وربما نجحوا فى تحويل ليبيا إلى دولة فاشلة، يسهل معها التوغل والتغول فى مفاصل المنجم الثمين للثروات الطبيعية، وحصول أنقرة على حصة كبيرة فى رقعة المعارك، تضمن أن تكون لها كلمة فصل فى أى نتيجة، مهما كانت التداعيات..
وهذه هى تركيا، التى عودتنا أن تكون سمسارًا للأزمات، وأينما تشتعل الاضطرابات، يبزغ النجم التركى، ولنا فيما حدث ويحدث فى سوريا عبر كثيرة.. لأن الإرهابى التركى يتنقل بتدابيره وسيناريوهاته المتشابهة على خارطة الأزمات، يحول البقاع العامرة إلى خرائب، يجنى منها المكاسب، بكلفة دموية غزيرة تتكبدها الشعوب التى كانت آمنة. قال أردوغان فى مقال نشره موقع Politico الأمريكى، بعنوان «طريق السلام فى ليبيا يمر عبر تركيا»، إن بلاده مفتاح إنهاء العنف هناك وبداية السلام، وعلى طريقة المتألم من أوضاعها، أضاف أن «ليبيا تغرق فى حرب أهلية منذ نحو عقد، فيما لم يف المجتمع الدولى بالتزاماته إزاء إنهاء العنف واستعادة السلام والاستقرار هناك»!.. لكنه سرعان ما يسترد طبيعته الإجرامية، فيعود إلى ابتزازه الأوروبيين، وتهديدهم باللاجئين «فى حال سقوط حكومة فايز السراج التى يدعمها فى طرابلس، فإن القارة العجوز ستواجه مشكلات ضخمة مثل الهجرة والإرهاب».. متناسيًا
أن ذاكرة العالم ما زالت تحفظ قصة تنظيم داعش، الذى سيطر عام ٢٠١٤ على مناطق واسعة من سوريا والعراق، تتضمن ٢٢ حقلًا للنفط فى البلدين، استخرج منها نحو ١٨٠ ألف برميل يوميًا، أدرت عليه نحو ثلاثة ملايين دولار فى اليوم، ومكاسب إجمالية بلغت ٥٠٠ مليون دولار، حتى ٢٠١٥.. وعبر الناقلات البرية أو شبكات الأنابيب الضخمة، تمكن داعش من تأسيس شبكة واسعة لتهريب هذا النفط إلى تركيا، مقابل قيام أنقرة بإمداد التنظيم الإرهابى بالأسلحة والسيارات والمعلومات الاستخباراتية، وعلاج جرحاه فى مستشفياتها. الغرب يدرك أن أنقرة، وفى تحدٍ سافر لقرار حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، الذى فرضه مجلس الأمن الدولى فى فبراير ٢٠١١، أقامت جسرًا لتزويد الميليشيات فى طرابلس بالأسلحة والعتاد، بعد فشل إخوان ليبيا، حلفاء أردوغان فى الاستحواذ على السلطة بالانتخابات، وفق قواعد اللعبة الديمقراطية، وانتهز أردوغان حالة النزاع الداخلى فى ليبيا، وقام بتوقيع مذكرة أقرب لعقود الإذعان، يتم بموجبها التخلى عن جزء من الثروات الليبية، بما ينتهك السيادة الوطنية مقابل دعم عسكرى موعود يبقى ليبيا فى بؤرة النيران!.. هذه المذكرة لم تكن وليدة اللحظة، فقد سعى لها أردوغان منذ عشر سنوات، وظلت المطامع التركية فى ثروات ليبيا تختمر فى عقل السلطان الموهوم، حتى تم تنفيذها باتفاقه مع السراج.. إذ يهدف أردوغان بتلك الاتفاقيات، ضرب الخرائط الدولية التى تنظم عمليات التنقيب عن الغاز فى البحر المتوسط، ويتصور أن مذكرة ترسيم الحدود كفيلة بأن تُوجد له موقع قدم فى المنطقة، ولو فى غير مياهه الإقليمية، ويفوته أن البحث عن الغاز والنفط يتطلب التوقيع على الاتفاقية الدولية للبحار بداية، إلى جانب أن الترسيم بين الدول المتشاطئة مسألة لها شروط أممية، أما الحديث عن التنقيب فى مياه يفصلها عن تركيا قبرص والجزر اليونانية، فهذا خارج جميع الإطارات الدولية ويعد بمثابة إعلان حرب.
وإزاء ما قامت به تركيا مؤخرًا، من نصبها منظومة دفاع جوى فى مطار معيتيقة الليبى وإنزالها أسلحة ومدافع موجهة فى ميناء مصراتة، وما أكده المتحدث باسم الجيش الليبى «رصدنا وصول أسلحة بحرًا وجوًا إلى ميليشيات طرابلس فى فترة وقف إطلاق النار»، ما يعنى أن أردوغان لن يرتدع بقرارات برلين وما قبلها، كان قرار الجيش الوطنى الليبى، بإعلان «تفعيل منطقة الحظر الجوى» فوق العاصمة الليبية وضواحيها.. وباعتبار «قاعدة معيتيقة الجوية ومطار معيتيقة، هى مناطق عسكرية ممنوع منعًا باتًا استخدامها للطيران المدنى أو العسكرى».. لأن مطار معيتيقة يستخدم لغايات عسكرية، أهمها استقدام مقاتلين من تركيا، وأشياء أخرى.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.
الفرز ضرورى للاصطفاف