لواء دكتور/ سمير فرج : أخيراً تحقق الحلم

عندما كنت محافظاً للأقصر، كانت أقسى درجات الإحباط، والألم النفسي، التي تصيبني، وتسيطر عليّ، أحياناً، عندما أجد نفسي عاجزاً، عن اتخاذ قرار يتعلق بإنقاذ حياة مواطن، في ظل الإمكانات المتاحة، والقوانين المنظمة، وتزداد درجات الألم النفسي حين يتعلق الأمر بمجال الرعاية الصحية.
كنت أحاول التخفيف عن المواطنين، بما تيسر لي من جهد، وبما لا يخالف القوانين واللوائح، فمثلاً، بعد تكرار شكاوى المواطنين من تدني الخدمات الصحية في المحافظة، حتى في مراكزها الكبرى، وليس نجوعها فقط، اتصلت، على الفور، بالأستاذ الدكتور سامح فريد، عميد كلية طب القصر العيني، آنذاك، طالباً تدبير إرسال قافلة طبية متميزة، إلى الأقصر. فلم يتردد سيادته في الاستجابة لمطلبي، استجابة سريعة وفعالة، إذ قام بتجهيز قافلة كبيرة، تضم العديد من رؤساء الأقسام في القصر العيني، وقد كان مخططاً لها أن تمضي في الأقصر ثلاثة أيام، إلا أنه في ضوء الاحتياج الشديد، والإقبال الكبير من المواطنين، استمرت القافلة لمدة أسبوع كامل.
كان من المفارقات الحزينة أن اكتشفت القافلة الطبية، في بعض المناطق النائية، وجود 20 حالة من مرض “الجذام”، ذلك المرض الجلدي، الذي اختفى من العالم، ولم يعد له ذكر إلا في المراجع العلمية، فقط. قدمت تلك القافلة خدمات جليلة، خاصة في أمراض العيون، والأسنان، والجراحات، أما الحالات التي استدعت رعاية متخصصة، لا تتوافر بالمحافظة، فقد تم نقلها إلى مستشفى القصر العيني، بالقاهرة لإتمام العلاج.
وتكررت القافلة، بعد ذلك، مرتين، حتى صارت حديث المدينة، ومحط اهتمام الأهالي، ولم يقتصر عملها على تقديم الخدمات الصحية للمواطنين، بل أضافت إليه محاضرات علمية، رفيعة المستوى، لشباب الأطباء بالمحافظة، لوصل ما انقطع من تلقي الشباب تلك الخبرات من أساتذتهم الكبار، الذين يتابعون أخبارهم في مختلف وسائل الإعلام، دون أن تتيح لهم الظروف الالتقاء بهم، وكم كانت سعادتي بالغة، لإقبال شباب الأطباء على تلك المحاضرات، وتحملهم تكاليف الانتقالات، لأن محاضريهم هم أكبر القامات في القصر العيني.
وفي أحيان أخرى، كنت أقف مكتوف اليدين، عاجزاً عن تقديم العون، ومن المواقف التي لا أنساها، بل وتطاردني ذكراها، كلما جمعني حديث عن الإمكانات التي توفرها الدولة في مجال الرعاية الصحية، حينما تقدم لي أحد مسؤولي المحافظة، تكسو ملامحه علامات الجزع، والحزن، بعدما علم بإصابته بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي، “فيروس سي”، وأنه لا يجد ثمن العلاج، وحتى إن وجد الثمن، فالعلاج غير متوفر، سوى في الخارج. كنت في حالات مشابهة، أوجه بعض رجال الأعمال، من الراغبين في عمل الخير، وتحمل مسئولياتهم المجتمعية، بالتكفل بعلاج عدد من المواطنين، العاجزين عن تحمل نفقات علاجهم، أما في حالة مسؤول المحافظة، فلم يكن ذلك ممكناً، بأي شكل من الأشكال، لعدة أسباب، أهمها أن كلانا، الموظف وأنا، لن نقبل بذلك درءاً للشبهات، وسداً للذرائع، وصوناً لكرامة الموظف.
كنت أراقب تلك المواقف ولا يغيب عن ذهني، ما ردده، السيد مهاتير محمد، أشهر رؤساء الوزراء في ماليزيا، وصانع نهضتها، بأن سر نجاح أي دولة، هو نجاحها في التنمية البشرية، قاصداً بذلك طرفي التنمية البشرية؛ التعليم والصحة، أراقب ذلك في الوقت الذي كانت الخدمات الطبية التي تقدمها الدولة، في أدنى مستوياتها، خاصة في صعيد مصر، الذي يكاد يكون محروم منها تماماً، نتيجة سنوات من الإهمال.
تذكرت كل ذلك، وأنا أتابع، في الأسبوع الماضي، إعلان السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، عن انطلاق منظومة التأمين الصحي الشامل للمواطن المصري، متخذاً من مدينتي الحبيبة، بورسعيد، بداية لتعميم المنظومة الصحية، فبلغت سعادتي عنان السماء، وشعرت بتكريم مدينتي الباسلة، صاحبة البطولات، التي أراها تستحق كل ذلك، وأكثر، بعدما عانت الكثير في السنوات الماضية. لقد تحقق الحلم الذي راود كل المصريين، منذ زمن بعيد، ولم يظن أحد أن مصر ستحققه أبداً. وقد أكد السيد الرئيس على أن منظومة التأمين الصحي تأتي في إطار الإيمان بحق كل مواطن، في مصر، في الرعاية الصحية المتكاملة، وفقاً لأعلى معايير الجودة، مشدداً على مشاركة كل مواطن بالاشتراك في المنظومة، مع التزام الدولة بنصيبها، وواجباتها بشأنها.
تعد منظومة التأمين الصحي الشامل، استكمالاً لعدد من المبادرات الصحية الهامة، التي بدأها السيد الرئيس، ومنها، على سبيل المثال، لا الحصر، مبادرة 100 مليون صحة، التي شملت جميع محافظات مصر، بهدف الكشف عن حاملي فيروس سي، وعلاجهم على نفقة الدولة، حتى تمام القضاء عليه. ومبادرة القضاء على قوائم الانتظار، وبمقتضاها تم إجراء نحو 300 ألف عملية جراحية، خلال عام، بتكلفة 2 مليار جنيه، إضافة إلى مبادرة علاج الأمراض غير السارية، مثل السكر والسمنة والضغط، ومبادرة الكشف عن مرض سرطان الثدي للسيدات، والتصدي له، حيث أن الكشف المبكر يحقق نسب شفاء عالية، ومبادرات أخرى لا تقل أهمية، وتؤثر إيجاباً في مستقبل مصر، مثل مبادرة الكشف المبكر للسمع للمواليد الجدد، وزراعة القواقع السمعية للأطفال، ومبادرة نور حياة لعلاج أمراض العيون، التي تفتح طاقات من نور لكل أبناء مصر. ولا تتوقف المبادرات، فقد شدد الرئيس على حتمية إجراء فحص طبي شامل، لكل الطلاب، مع بداية العام الدراسي، للتصدي لأي أمراض، قبل تفاقمها، أو انتشارها.
وتتزامن خطوات تقديم الرعاية الصحية اللازمة للمواطن، مع قيام الدولة، مؤخراً، بالتفاوض مع كبريات الشركات الأجنبية، من خلال لجنة الشراء الموحد، لتدبير المستلزمات الطبية، من أجهزة ومعدات، لمستشفيات وزارة الصحة، والجامعات، والهيئات الأخرى، من أفضل الموردين في العالم، بأسعار تنافسية، ونسب خصم تصل، في بعض الأحيان إلى 50%، بما يحقق فائض يسهم في تدبير أصناف ومعدات طبية إضافية، لتأمين المخزون الاستراتيجي للدولة في مجال الرعاية الصحية. فصارت الأجهزة والمعدات الموجودة بعض مستشفيات وزارة الصحة، في المحافظات، تتفوق على مثيلاتها في مستشفيات ومعامل القطاع الخاص.
وهكذا تبدأ أولى خطوات تحقيق حلم وصول الرعاية الطبية لكل مواطن، والقضاء على مشاهد قرى مصر المحرومة من الرعاية الصحية … فسلامة صحة المواطن هي بداية تقدم الدولة.
Email: sfarag.media@outlook.com
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.