مصر دولة عظيمة بكل المقاييس، تمتلك ثروات هائلة في مجالات شتى، وخاصةً الزراعة، ولكنها تحتاج إلى من يرعى هذه الثروات، ويعمل على تنميتها، برؤية واضحة، وخطة علمية، فلا يجب أن تترك للمبادرات الفردية … فالاتحاد قوة، خاصةً في مجالات الصناعة والزراعة.
واليوم أقدم لكم مثالاً صغيراً عن ثروات مصر، التي وهبها الله سبحانه وتعالى لهذا البلد العظيم، ولكنها لاتزال في حاجة إلى تكاتف الجهود لتنمية هذه المنحة من رب العباد … لقد بدأت القصة عندما كنت محافظاً للأقصر، إذ حضر إلى مكتبي أحد رجال الأقصر العظماء، وهو الحاج علي العديسي، رحمة الله عليه، والذي فاز بعضوية مجلس الشعب، آنذاك، لمدة ٤ دورات برلمانية متتالية، أي لمدة ٢٠ عاماً، بذل، خلالهم، الكثير من الجهد لتلبية مطالب أهالي الأقصر، فكان خير من يمثلهم … حضر لمكتبي لدعوتي لافتتاح موسم جني العنب، وسمعت منه الكثير عن هذا المحصول وتنميته وحجم صادراته، وتعجبت، بدايةً، من عظمة ما سمعت.
لبيت الدعوة، في اليوم المحدد، فوجدتني في مزرعة على أعلى مستوى من التخطيط، والنظام، والنظافة، تخصصت في زراعة العنب، ووجدت بعض الأجانب، وعلمت أنهم المستوردين الإنجليز، الذين حضروا بأنفسهم لمتابعة بدء جني المحصول، المقرر تصديره، في صباح اليوم التالي، على طائرة نقل خاصة، إلى إنجلترا مباشرة.
بدأت القصة مع الحاج علي العديسي بزراعة ١٤ فدان في الأرض السوداء، ارتفعت إلى ٧٠ فدان لزراعة العنب، قبل إضافة 70 فدان، جديدة، في الأرض الصحراوية، لتصل رقعة الأرض المزروعة بالعنب، في الأقصر، إلى ١٤٠ فدان، يتم تصدير محصولها إلى إنجلترا، وألمانيا، والدنمارك، وهولندا، وجنوب أفريقيا. يحظى العنب في الأقصر، بميزة تنافسية في التصدير، إذ أنه ينضج أسبوعين مبكراً عن المحصول في أوروبا؛ حيث أن جني العنب في الأقصر يكون في بداية شهر مايو، من كل عام، بينما في دول أوروبا يتم جني العنب بعد النصف الأول من شهر مايو، بما يتيح الفرصة لمحصول العنب المصري الأقصري، لأن يتربع وحده على عرش السوق الأوروبي، لمدة أسبوعين، لذلك يكون سعره الأعلى. لا ينافسه في ذلك إلا إنتاج العنب في الهند، الذي تنتهي دورته الزراعية في نهاية شهر أبريل.
حدثني الحاج العديسي عن مشكلة كانت تواجهه، وهي أن الفتيات العاملات في جني المحصول، من طالبات المدارس في المدينة، ونظراً لحساسية المنتج، الذي يحتاج إلى سرعة في الجني، فكان لابد من تفرغهم لمدة أسبوعين متتاليين، فهاتفت السيد وزير التعليم، آنذاك، وأطلعت سيادته على الأمر، وبالفعل، تم منح إجازة لثلاث مدارس للفتيات، وهو أمر معمول به، خاصة في المحافظات القائمة على الزراعة، فقد يطلب محافظها، على سبيل المثال، السماح بمنح إجازة في موسم جني القطن.
صحبني الحاج العديسي في جولة للتعرف على مراحل إعداد المحصول لتصديره، فكان منها محطة التعبئة، التابعة “لجمعية هيا”، من مجموعة تنمية الصادرات، والتي تجمع كل المصدرين من المزارعين في مصر، وتقوم ببناء كل محطات التعبئة والثلاجات لأغراض التصدير، فرأيت نظاماً مبشراً، والتزاماً بمعايير الصحة والجودة، والتقيت هناك بمندوبي الشركات الأجنبية، المستوردة للعنب، الموجودين لمراجعة مواصفات المحصول، من حيث الجودة، والحجم، والمذاق، فهناك مقاييس لدرجة تركيز السكر في حبة العنب، والذي يجب ألا يقل عن ١٥ درجة طبقاً لمقياس Prix، وهناك أذواق لكل دولة، فمثلاً المستهلك البريطاني لا يفضل العنب مرتفع السكر، بينما هو العكس لدول أخرى، كما يتم فصل المحصول وفقاً لحجم حبة العنب، فلا يتم تصدير ما هو أقل من ١٥ مللي، ويتم تمييز الأصناف X Large، التي يصل حجم الحبة فيها إلى ٢٠ مللي، يتباين الطلب عليها طبقاً لذوق المستهلك، لذلك فمهمة هؤلاء المندوبين هي ملائمة المنتج لذوق المستهلك في بلده. وفي محطة التعبئة يتم وزن العبوة، وتغليفها، لتصل ليد المستهلك النهائي، مباشرة، في أسواق العرض والبيع.
ولأنني من محبي متابعة هذه النجاحات المصرية، فإنني لازلت حتى يومنا هذا، على اتصال بنجل المغفور له، بإذن الله، الحاج علي العديسي، المهندس محمد العديسي، خريج الجامعة الأمريكية، الذي يتابع المشروع، ويعمل على تطويره، فتمت زيادة المساحات المزروعة إلى خمسة أضعاف، وأصبح من معالم الأقصر، في بداية شهر مايو من كل عام، مشاهدة طائرات النقل العملاقة، القادمة من أوروبا، لشحن إنتاج العنب الأقصري. وبمتابعة أزمة فتيات المدارس، العاملات في جني العنب، أبلغني بأنهم صاروا يوظفون الفتيات، بعد سن المدرسة، ليقوموا بكل الأعمال، بدءاً من جني العنب، حتى التغليف والتعبئة، مروراً بعمليات قص وتقليم الأشجار، التي كان يكلف بها الرجال، أصبحت، الآن، الفتيات يقمن بها، لأن قطف العنب من العناقيد يحتاج إلى أنامل الفتيات الرفيعة، والفن في توقيت قطف العنقود، كل هذه الخبرات أصبحت مجموعة الفتيات قادرات على تنفيذها، ليخرج محصول العنب الأقصري، إلى أسواق أوروبا بصورة، ومستوى متميز. وعلمت منه، أيضاً، أن محصول العنب المصري يحظى بزيادة الطلب عليه في السوق الأفريقية، نظراً لاختلاف العروة الزراعية بيننا وبينهم، وجودة محصولنا. كما أطلعني المهندس محمد عن ترقبه للانتهاء، قريباً، من شبكة الطرق البرية، التي ستربطنا بالقارة السمراء، والتي ستسهل عملية التبادل التجاري بين مصر ودول القارة.
وعود إلى بداية المقال فهذه الثروات الهائلة التي منحها الله لمصرنا العظيمة؛ فالأراضي الصحراوية ممتدة، والمياه متوفرة، والمناخ مناسب، تماماً، لأن يخرج محصول العنب المصري، قبل إنتاج أوروبا بأسبوعين … ألا يدعونا، كل ذلك، لوضع الأقصر على خريطة مصر الاستثمارية، وتسويقها عالمياً، كمركز لزراعة، وتصدير العنب لكل دول أوروبا وأفريقيا، هذه فرصة للمستثمرين، المصريين والأجانب، للاستفادة من هبات الله لنا، في واحدة من أجمل مدن مصر … الأقصر الحبيبة.