الدكتور سيمور نصيروف يكتب : يوم الاستقلال في أذربيجان

الدكتور سيمور نصيروف
يحتفل الشعب الأذربيجاني في 28 مايو من كل عام بيوم الاستقلال الذى تم عام 1918م، حيث أعلن قيام جمهورية أذربيجان الديمقراطية، كأول جمهورية مستقلة في الشرق الإسلامي.
وقد احتفظت جمهورية أذربيجان باستقلالها لمدة سنتين فقط، ومثَّلت هذه الفترة الوجيزة من الاستقلال مرحلة ساطعة في تاريخ دولة أذربيجان ومكّنتها من ممارسة سياستها الخارجية والداخلية المنبثقة عن المصالح القومية.
كما استطاعت الدولة أيضا أن تضع جميع المقوّمات والأساسيات للدولة المستقلّة، مثل تأسيس جيش مستقل، وبنك مركزي، وطباعة العُملة الخاصة بها وما شابه ذلك.
وفي 1920م، وبالتحديد إبريل، تعرّضت أذربيجان لغزو من قوات البلاشفة الروسية مما كان سببا في احتلالها مرة أخرى وضمّها بعد ذلك إلى الاتحاد السوفيتي.
وفي خلال هذا الاحتلال تعرّض الشعب الأذربيجاني للأعمال الوحشية والمذابح المختلفة، وهنا أتذكّر روايات جدّي وجدّتي وما تعرّضا له من ظلم جائر واعتداءات غشيمة لا تُوصف، ولا تكاد تجد أسرة أذربيجانية إلا نالت جانبا من التعذيب، خاصة المتمسّكين بإيمانهم، وبحرّيّة المعتقدات والمُطالبين بالحرية، وجزاء هؤلاء إما أن يُقتَلوا وإما أن يُنفوا إلى سيبيريا وإلى بعض البلاد صاحبة المناخ القاسي حتى يحصل لهم العذاب وبالتالي يتم التخلّص منهم.
ومن ضمن هؤلاء الذين قُتلوا وشُرّدوا وعُذّبوا أُسرتي، وقد كان جدّ أبي الشيخ شعيب بن خليفة نصير بن الشيخ ولي الدين، من الشيوخ كبار المُربّين وعمدة قرية أوفالا في منطقة أستارا، وكان زعيما للمقاومة الشعبية في جنوب أذربيجان ضد احتلال البلاشفة الروسية.
وقد حصلتُ في الآونة الأخيرة من الأرشيف السوفيتي السابق على رسالة لجدّ أبي الشيخ شعيب التي ردّ بها على الرسالة التي وُجِّهت إليه ليستسلم في 4 مايو 1920م وذلك بعد احتلالهم عاصمة أذربيجان في إبريل 1920م ونص الرسالة كالآتي:
“أنا شيخ شعيب بن خليفة نصير بن مولا شيخ ولي الدين، زعيم المقاومة الشعبية ضد المحتلّين الذين يريدون احتلال وطننا، الرسالة التي أرسلتم إلي كعمدة لقرية أوفالا وأنتم تثرثرون فيها، نحن لن نجلس أبدًا مكتوفي الأيدي والأرجل حتى تأتوا وتحكمونا، وهذه الأراضي يعيش عليها العديد من المؤمنين الخادمين لشعبهم.
وأولادهم سيبقون مخلصين لآبائهم ولأجدادهم. عن أي تكافؤ تتحدثون؟! كل ما كتبتموه زيف وكذب، أنتم تذلّون شعبنا وتنهبونه وتتظاهرون مع هذا بأنكم مُحسنون.
نحن لن نقبل بأن تحكمونا، وثقوا بأننا أقوى منكم. أطلب منكم تحرير قُرانا، وإلا فإن ثورتنا ستكون بعد عدة أيام، وستهربون إلى دياركم. نحن نعرفكم جيدًا. لا تعتقدوا أن عددنا قليل. عدد الثائرين لدينا كبير، وهذا الشعب مستعد لأي شئ”.
وبعد مقاومة شرسة لمدة تسعة أشهر استُشهد جدّ أبي على يد المحتلّين في قرية حدودية بين مدينة أسطرا ولنكران مع عدد من مريديه في جنوب أذربيجان، وذلك عام1921م في يوم 21 أو 22 فبراير كما هو مدوَّن في تقرير آخر عن جدّ أبي.
ومصادر التاريخ تؤكّد مدى تعاون هؤلاء المحتلّين مع الأرمن للقيام بهذه المجازر وإن ذلك يذكّرني بما حدث في مصر أيام ثورة 1919م والتي قام بها الشعب المصري لحصوله على الاستقلال، لكنهم فوجئوا بتعاون الإنجليز مع بعض الفئات لقتل الثوار الأحرار من المصريين وإحداث الشغب والفوضى بينهم، ومن أراد أن يعرف أكثر عن هذا الموضوع فليقرأ مذكرات الشيخ عبدالوهاب النجار عن ثورة 1919م والتي أسماها “الأيام الحمراء”.
ومهما يكن الثمن فإن الإنسان لا يقبل الاحتلال مهما طال الزمن، وها نحن نرى بلادنا حرّة آمنة مستقلّة.
والباحث في التاريخ الأذربيجاني يرى مدى المكانة العلمية والعلاقة المتينة بينها والعالم العربي والإسلامي، يقول الحافظ الكبير أبو طاهر السلفي المدفون بالإسكندرية يثبت لهم الفضل والسبق والمكانة السامقة اللائقة بهم فيقول:
بلادُ أذَرْبِيجَانَ في الشّرقِ عندَنا.. كأندَلُسٍ بالغَرب في العلمِ والأدبْ
فما إن تكادُ الدّهرَ تلقَى مُميَّزًا.. مِنَ اهْلِيهمَا إلاّ وقدْ جدَّ في الطّلبْ
فقد قرن أبو طاهر السلفي في بيتيه هذين بين أذربيجان والأندلس في العلوم والآداب، وقرن بين أهل أذربيجان والأندلس بأنهما تجمعهما روح الجدية في الطلب والتفاني في العمل. والكل يعرف الأندلس وقيمتها العلمية وميزتها، وحضارتها الراقية المرموقة.
لقد كان هناك منذ القِدم علاقات متينة بين العالم العربي وأذربيجان عامة، وبين مصر خاصة على جميع الأصعدة المختلفة، تمر الأيام وتتوالى على هذه العلاقات فتزداد متانة وقوة وعمقا إلى يومنا هذا، فقد وُجدوا في أذربيجان منذ القدم يقول ابن الفقيه في كتابه «البلدان» عند حديثه عن أذربيجان: وأخبرني واقد أن العرب لما نزلت أذربيجان نزعت إليها عشائرها من المصريين والشاميين، ولا تَخلُ محافظة من المحافظات الأذربيجانية إلا بها عدد من القرى تسمى بأسماء العرب مثل عربلر – حاجي عرب – عرب بصره وإلخ.
واللغة الأذربيجانية بها كلمات عربية لا تُحصى ولا تُعد، وهذا خير دليل على مدى العلاقات الوطيدة بين الشعبين الأذربيجاني والعربي.
وبعد استقلال أذربيجان 1991م تعرّض جزء منها بما يعادل 20% للاحتلال على يد الأرمن، ولقد شُرِّد بسبب هذا
الاحتلال نحو مليون مواطن، وذبح السكان العزل لمدينة خوجالى الأذربيجانية.
وبعد أن استمر الاحتلال قرابة 30 عاما حرَّرت أذربيجان أراضيها مرّة أخرى من أيدي المحتلّين الأرمن في 2020م وقد
نهبوا ثروات هذه المنطقة ودمّروها وهي أشبه بمدينة هيروشيما وناجازاكي اليابانية واللتان دُمِّرَتَا بالقنبلة النووية.
وقد زرت هذه المنطقة المحرَّرة، وشاهدت بأمّ عيني الدمار الذي لحق بهذه المنطقة، وتيقّنت مرّة أخرى بأن هذه
الأرض لم تكن قط أرضا للأرمن عبر التاريخ كما يدّعون؛ لأنها لو كانت أرضهم لعمّروها ولم يدمّروها.
وبعد تحرير هذه الأراضي بقيادة حكيمة لفخامة الرئيس السيد إلهام علييف، لا تكاد تجد بقعة إلا وفيها العمار والعمل،
وفي فترة وجيزة ضخَّت الحكومة الأذربيجانية مليارات الدولارات لإعادة إعمار هذه المنطقة بأحدث وسائل التكنولوجيا
للحفاظ على التراث الأذربيجاني وإعادة السكّان الأصليين من أذربيجان لهذه المنطقة.
وبعد استعادة أذربيجان وحدة أراضيها المُعترَف بها من قِبل جميع دول العالم، تسعى أذربيجان لإبرام اتفاقية السلام
مع أرمينيا ليسود السلام ويعمّ الأمن في المنطقة.
ولم تجن أرمينيا أي فائدة من هذا الاحتلال؛ ولهذا نرى أن هناك بوادر لبعض المؤشّرات الإيجابية تجاه إبرام اتفاقية
السلام بين البلدين.
والقارئ عن أذربيجان يدرك مدى التقدّم والتفوّق الذي تعيشه أذربيجان الحديثة والتي وضع أسسها الزعيم القومي
حيدر علييف، والذي يسير على دربه الرئيس إلهام علييف، وبهذه السياسة الحكيمة تحوّلت أذربيجان إلى أقوى دولة
في المنطقة.
وتُولِي أذربيجان اهتماما بالِغًا بعلاقاتها مع الدول العربية، ومن الجدير بالذكر أن الدول العربية فى مقدمة الدول التي
اعترفت باستقلال أذربيجان.
وفي 27 يناير الماضى 2023، قام الرئيس عبدالفتاح السيسي بزيارة تاريخية إلى أذربيجان، كما أنه تم تعيين سفير
لأذربيجان في الجزائر. وألغيت تأشيرة الدخول للمواطنين بين أذربيجان والإمارات. وهكذا في كل يوم نسمع من الأخبار
السارَّة في العلاقات بين أذربيجان والدول العربية. ونحن نسعد بهذه العلاقات المتميّزة المثمرة.
ونسأل الله أن يعمّ السلام والأمن بين جميع البلاد والعباد، ولا يُرينا الله مكروها في أي إنسان.
كاتب المقال رئيس الجالية الأذربيجانية في مصر
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.