بعد قليل ستمر هدى المداح من هنا، من هذا الشريط الضيق الذي يفصل بين ترعة المشروع ودارنا. انتظر كامنًا في الظلام الدامس عند حديقة الأشباح تحت حجرة المقعد التي كان يبتهل فيها جدي لله، ويحرق على بابها الشياطين، ويفقع عين الحاسدين.
الجرة فوق رأسها لا تميل، عود من الخيزران الأسمر، قدها الممشوق كرمح ثابت في الأرض ومتطلع دائمًا للسماء. الوقت يطول وأنا في الظلام أتذكر جدي والشياطين وصغار العفاريت. يتتابع صوت خرير الماء في القنوات التي تمر بين الحقول تقسمها مربعات ومستطيلات. تعلو أصوات ذكران الضفادع تنادي على الإناث بصوتٍ خشن ومرتفع، يحمل شهوة تصهل في الليل.
تبتسم هدى عندما تقترب من سور الدار، تلمحني شبحًا مستعرًا يتخفى في الظلام. تتجه نحو حنفية المياه الموجودة على ناصية عزبة سعيد. لا أحد غيرها عند الحنفية، تخاف البنات النزول في الليل لملء الجرار. قتلت عسرانة ذات ليلة عندما علم أبوها بعلاقتها بحامد الحلاق. فصل رأسها بمنجل الذرة، ودفنها تحت شجرة الجميز. في كل ليلة تخرج في الليل تجلس على حافة الترعة تنادي على نساء القرية.
تبتسم هدى عندما تقترب مني، تنفرج الابتسامة عن أسنان بيضاء تعكس ضوء القمر. يتمدد ظلي تحت شعاع القمر بجوار ظلها. تضع صفيحة المياه على الأرض، وتبادلني بضع كلمات خاطفة، تحذرني ألا أقطع عليها الطريق مرة أخرى. لكن عيناها تدعوان إلى مغامرة حدودها تمتد خارج قريتنا التي تخشى الأفراح والأشباح، ودودة القطن.
تمضي الليلة مثل كل ليلة، تأتي هدى وتمضي، تحمل صفيحة المياه فوق رأسها بخفة ورشاقة دون أن تلمسها بيدها. تمشي كراقصة باليه، على أطراف أصابعها تكاد تطير. وأنا منتظر منها أي إشارة، لكنها تقترب دون أن تبوح، وتوعِد دون أن توفي. متى تعلمت هدى كل هذا المكر؟!
في ليل قريتنا الطويل تعيد أم هدى الطباخ عليها حكاية عسرانة وتحذر هدى من الذهاب ناحية الترعة، والاستجابة لندائها. الجميزة العجوز شهدت كثيرًا من الوقائع في قريتنا. أقفز على فروعها، أخرج سكينًا صغيرًا أشرط كل ثمرة شرطتين، ينز حليب الجميز في يدي.
أمر بعد يومين أجمعه، أجلس على حافة الترعة أغسله. تميل الشمس نحو الغروب، ترسل أشعتها البرتقالية على صفحة مياه ترعة المحمودية. أجلس على الكوبري الذي تمر من تحته المياه الدافقة التي تأتي في رحلة طويلة تسير من أسوان حتى أبو الريش في الشمال الآخر قبل الإسكندرية، تحمل على صفحتها وجوه الفلاحين الذين حفروها ودفنوا في قاعها.
أتناول الجميز وأتذكر هدى الطباخ وقدها الممشوق، وأتدبر أمري وأقرر أن أنتظر ليلة أخرى في الظلام تحت حجرة المقعد لجدي الذي كان يسهر حتى الفجر يبتهل إلى الله ويحرق الشياطين.
في الإسكندرية التحقت بالجامعة، ابتعدت عشرات الكيلومترات عن دارنا وعن وجه هدى. أمشي على البحر مخترقًا شارع صفية زغلول بمحطة الرمل، شيء ما يسكن هذه المدينة يثير البهجة والحنين. تتجمل الإسكندرية في النهار للبحر، تعانق أمواجه، تنثر القوارب العتيقة على وجه البحر، كقطع الخرز الملون تزين صفحة المياه. حي الأنفوشي، يتداخل عند أطرافه بحلقة السمك،