” جميز ابو الريش ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام 

الإعلامي محمود عبد السلام
بعد قليل ستمر هدى المداح من هنا، من هذا الشريط الضيق الذي يفصل بين ترعة المشروع ودارنا. انتظر كامنًا في الظلام الدامس عند حديقة الأشباح تحت حجرة المقعد التي كان يبتهل فيها جدي لله، ويحرق على بابها الشياطين، ويفقع عين الحاسدين.
الجرة فوق رأسها لا تميل، عود من الخيزران الأسمر، قدها الممشوق كرمح ثابت في الأرض ومتطلع دائمًا للسماء. الوقت يطول وأنا في الظلام أتذكر جدي والشياطين وصغار العفاريت. يتتابع صوت خرير الماء في القنوات التي تمر بين الحقول تقسمها مربعات ومستطيلات. تعلو أصوات ذكران الضفادع تنادي على الإناث بصوتٍ خشن ومرتفع، يحمل شهوة تصهل في الليل.
تبتسم هدى عندما تقترب من سور الدار، تلمحني شبحًا مستعرًا يتخفى في الظلام. تتجه نحو حنفية المياه الموجودة على ناصية عزبة سعيد. لا أحد غيرها عند الحنفية، تخاف البنات النزول في الليل لملء الجرار. قتلت عسرانة ذات ليلة عندما علم أبوها بعلاقتها بحامد الحلاق. فصل رأسها بمنجل الذرة، ودفنها تحت شجرة الجميز. في كل ليلة تخرج في الليل تجلس على حافة الترعة تنادي على نساء القرية.
تبتسم هدى عندما تقترب مني، تنفرج الابتسامة عن أسنان بيضاء تعكس ضوء القمر. يتمدد ظلي تحت شعاع القمر بجوار ظلها. تضع صفيحة المياه على الأرض، وتبادلني بضع كلمات خاطفة، تحذرني ألا أقطع عليها الطريق مرة أخرى. لكن عيناها تدعوان إلى مغامرة حدودها تمتد خارج قريتنا التي تخشى الأفراح والأشباح، ودودة القطن.
تمضي الليلة مثل كل ليلة، تأتي هدى وتمضي، تحمل صفيحة المياه فوق رأسها بخفة ورشاقة دون أن تلمسها بيدها. تمشي كراقصة باليه، على أطراف أصابعها تكاد تطير. وأنا منتظر منها أي إشارة، لكنها تقترب دون أن تبوح، وتوعِد دون أن توفي. متى تعلمت هدى كل هذا المكر؟!
في ليل قريتنا الطويل تعيد أم هدى الطباخ عليها حكاية عسرانة وتحذر هدى من الذهاب ناحية الترعة، والاستجابة لندائها. الجميزة العجوز شهدت كثيرًا من الوقائع في قريتنا. أقفز على فروعها، أخرج سكينًا صغيرًا أشرط كل ثمرة شرطتين، ينز حليب الجميز في يدي.
أمر بعد يومين أجمعه، أجلس على حافة الترعة أغسله. تميل الشمس نحو الغروب، ترسل أشعتها البرتقالية على صفحة مياه ترعة المحمودية. أجلس على الكوبري الذي تمر من تحته المياه الدافقة التي تأتي في رحلة طويلة تسير من أسوان حتى أبو الريش في الشمال الآخر قبل الإسكندرية، تحمل على صفحتها وجوه الفلاحين الذين حفروها ودفنوا في قاعها.
أتناول الجميز وأتذكر هدى الطباخ وقدها الممشوق، وأتدبر أمري وأقرر أن أنتظر ليلة أخرى في الظلام تحت حجرة المقعد لجدي الذي كان يسهر حتى الفجر يبتهل إلى الله ويحرق الشياطين.
في الإسكندرية التحقت بالجامعة، ابتعدت عشرات الكيلومترات عن دارنا وعن وجه هدى. أمشي على البحر مخترقًا شارع صفية زغلول بمحطة الرمل، شيء ما يسكن هذه المدينة يثير البهجة والحنين. تتجمل الإسكندرية في النهار للبحر، تعانق أمواجه، تنثر القوارب العتيقة على وجه البحر، كقطع الخرز الملون تزين صفحة المياه. حي الأنفوشي، يتداخل عند أطرافه بحلقة السمك،
ينادي الباعة على الزبائن: دنيس، مياس، مرجان، جمبري. رائحة السمك البحري الطازج تسكن أنفي. أبتاع بضع
سمكات، أذهب بهن إلى فرن المعلم حسونة بشارع الحجاري. تقف النسوة بالملاءات اللف، يحبكن أطرافها حول
أجسادهن، يتبادلن الحديث لحين انتهاء صواني السمك من النضوج .
للبيوت حكايات وللنساء أسرارهن. تصل إلى بعض الكلمات حين يعلو صوتهن، ينظرن إلي، ثم تنفرج الأفواه بابتسامة
خجل. أبحث في وجوههن عن هدى المداح ولا أملّ.
وحيدًا في شرفة الحجرة المستأجرة بجنيهات قليلة أجلس لتناول صينية السمك، أنظر إلى البحر الممتد، أمواجه
تتابع تضرب الصخر بقوة وإصرار يعلو الزبد. تتحرك قوارب الصيادين، صعودًا وهبوطًا كمهاد طفلٍ تحاول أمه أن ينام.
أتذكر شجرة الجميز، والحنفية وجرار المياه. أهبط إلى قلب المدينة البهيجة، أتناول كوبًا من الخروب، وأركب الترام،
أعد المحطات: الشاطبي، سبورتنج، سيدي جابر. أنقش الأسماء على غلاف قلبي،
تتمشى البنات في الشوارع الجانبية يحملن كتبهن المدرسية كما تحمل هدى صفيحة المياه. وداخل حقائبهن
الخطابات الزرقاء، ترتسم على وجوههن ابتسامات تنادي على الحياة. تتفتح الزهور مع دخول الربيع، تكتسي شوارع
المدينة البحرية بالأوراق الخضراء والزهور الملونة، والأيادي المتشابكة. تشاكسني الأوهام والأحلام والأماني الممكنة
والغير ممكنة.
أجلس بجوار عم مهدي على صخرة بئر مسعود، أتابعه وهو يلقي بالسنارة في المياه العميقة وينتظر. الانتظار دائمًا
يطول. يشعل عم مهدي لفافة تبغ ويسحب منها نفسًا عميقًا ويخرج الدخان على مهل، وينظر إلى البعيد. لا يتابع
غمزات السنارة ولا يأبه لها. يحكي لي عن الرزق الذي وجده في الجانب الآخر في بلاد الإسكندر الأكبر، وحبيبته
التي ترك ابنه عندها ولم يعد إليه. ألمح في عينيه لحظة أسى، أصمت احترامًا. يسحب السنارة ويتجنب النظر إلي،
يضع الطعم مرة أخرى ويطوح السنارة إلى حيث البعيد، كأنه يريد أن تصل إلى الجانب الآخر من البحر ويسرح وهو
يغني أغنية ذات إيقاع يوناني حتى مغيب الشمس.
انتهى العام الدراسي وعدت إلى أبو الريش أحمل لهفتي لوجه هدى، وانتظر عند جنينة الأشباح. يطول الليل
والانتظار ولا تأتي هدى. تعودت هدى على الغياب بعد أن غادرت للدراسة.
مللت الانتظار، بعد إلحاح تزوجت. عند أحد المنحنيات تقابلنا صدفة، ألقت التحية وجلًا وهي مترددة. نظرت في وجهها
أبحث عن البريق لم أجده، لم أجد سوى بطنها المنتفخ يحمل للحياة طفلًا آخر.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.