مع اقتراب ٢٠٢٥ من نهايته، وبينما تحتفظ أعين العالم بذكري الافتتاح العالمي للمتحف المصري الكبير فى الاول من نوفمبر الماضي باعتباره أيقونة ثقافية وسياحية جديدة، اختارت وزارة الثقافة أن تذكّرنا بحقيقة لا تقل أهمية وهى أن مصر لا تختزل في متحف واحد مهما بلغت عظمته، وأن خريطة الذاكرة الوطنية تمتد عبر عشرات المتاحف المنتشرة في القاهرة والمحافظات، تحمل في جنباتها حكايات الفن والفكر والنضال والهوية.
من هنا جاءت مبادرة “فرحانين بالمتحف الكبير.. ولسه متاحف مصر كتير”، التي أطلقتها الوزارة على مدار شهر كامل، برعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، كمحاولة واعية لإعادة المتاحف إلى قلب المشهد الثقافي والحياة اليومية للمواطن.
المبادرة لم تكن مجرد دعاية موازية لحدث عالمي، بل رؤية ثقافية تسعى إلى استعادة الدور التنويري للمتاحف، والتأكيد على أنها ليست مخازن للقطع الأثرية أو لوحات صامتة، بل فضاءات حية للتعلم والتأمل والحوار، ووسيلة فعالة لتعزيز الانتماء والوعي بالهوية المصرية.
ولم اعتد أو بمعنى أدق كنت ولا أزال أرى عدم الكتابة عن أى مسؤول وهو في موقع المسؤولية ، ولكن كما نقول ان لكل قاعدة استثناء أسمح لى عزيزي القارىء أن ألقى الضوء على هذه المبادرة المهمة وبطلها الأول المبدع ” أمير نبيه ” وكيل أول وزارة الثقافة المشرف على المبادرة والذى أعرفه قبل ربع قرن من الزمان منذ أن كان موظفا فى قطاع العلاقات الثقافية الخارجية ثم تدرج فى العديد من المواقع وترك بصمة فى كل منها ، ولن أبالغ إذا قلت أن له من اسمه نصيب فهو إنسان “أمير ” ذو خلق رفيع ومسؤول ” نبيه ” جمع بين الحسنيين ، كما نقول.
ووفقا لما ذكره لى “نبيه” فإن المبادرة انطلقت من فكرة بسيطة وعميقة في آن واحد ، فالاحتفاء بالمتحف المصري الكبير لا يتعارض مع تسليط الضوء على بقية المتاحف، بل يكمله. فبين متحف قومي يوثق لحظة تاريخية، وآخر فني يرصد تطور الإبداع، وثالث متخصص يحفظ تراثًا شعبيًا أو أدبيًا، تتشكل صورة مصر المتنوعة، التي لا تنفصل فيها السياسة عن الفن، ولا التاريخ عن الحياة اليومية.
ووضعت المبادرة عدة أهداف واضحة، في مقدمتها تعزيز الوعي بالهوية المصرية، وإعادة اكتشاف المتاحف الفنية والقومية والمتخصصة، وجذب شرائح جديدة من الزوار، خاصة الأطفال والشباب، إلى جانب كسر الحواجز النفسية بين الجمهور والمتاحف عبر دمج الثقافة في الفضاءات العامة، مثل مترو الأنفاق والساحات المفتوحة، لتصبح المعرفة أقرب وأسهل وصولًا.
انعكست المبادرة سريعًا على أرض الواقع، إذ شهدت المتاحف التابعة لوزارة الثقافة حراكًا غير مسبوق، تمثل في توافد أعداد كبيرة من رحلات المدارس والمعاهد والكليات، في استجابة واضحة للدعوة التي أطلقتها الوزارة، خاصة مع اقتراب نهاية المبادرة وتزامن ذلك مع بدء الامتحانات الدراسية. بدا واضحًا أن المبادرة نجحت في إعادة المتحف إلى خريطة الأنشطة التعليمية، باعتباره امتدادًا للفصل الدراسي، ومكانًا للتعلم بالتجربة والمشاهدة لا بالحفظ والتلقين.
قدمت المبادرة المتاحف بوصفها خزائن للذاكرة الوطنية ومنارات للمعرفة، تحمل شواهد على تطور الدولة والمجتمع والفكر. وكان من أبرز المتاحف المشاركة متحف دار الكتب والوثائق القومية بباب الخلق، التابع للهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية برئاسة الدكتور أسامة طلعت، أحد أهم الصروح المعرفية في مصر والعالم العربي. ويضم كنوزًا نادرة من المخطوطات والوثائق التاريخية والمصاحف النفيسة والخرائط والمسكوكات والبرديات العربية، بما يوثق تاريخ الدولة المصرية وحركتها الإدارية والثقافية عبر قرون طويلة.
ولأن الثقافة لا تُفهم دون رموزها، كان لافتًا حضور متاحف السيرة والإبداع،و تصدّر المشهد متحف طه حسين التابع لقطاع الفنون التشكيلية برئاسة الدكتور وليد قانوش، والذي يستقبل زائريه داخل فيلا عميد الأدب العربي بحي الهرم، وعلى ضفاف النيل، فتح متحف أحمد شوقي أبوابه داخل «كرمة ابن هاني»، محتفظًا بذاكرة أمير الشعراء الذي شكّل وجدان الأمة العربية.
وفي مسار مختلف، لكن لا يقل أهمية، شارك متحف فن الزجاج والنحت والعجائن المصرية، أحد المتاحف الفريدة في أفريقيا والشرق الأوسط، الذي يجسد شراكة إبداعية وإنسانية نادرة بين الفنان الراحل زكريا الخناني وزوجته الفنانة الدكتورة عايدة عبدالكريم.
امتدت المبادرة إلى متاحف تحمل ذاكرة النضال الوطني، مثل متحف مصطفى كامل الذى يؤرخ لمسيرة الزعيم الوطني ونضاله،ومتحف عبد الرحمن الأبنودي للسيرة الهلالية بقرية أبنود في قنا، ومتحف المنصورة القومي (دار ابن لقمان)، شاهدًا على أسر الملك لويس التاسع عام 1250، وتخليد انتصار المصريين.
متحف النصر للفن الحديث ببورسعيد، الذي يضم أعمالًا لكبار الفنانين المصريين تجسد روح الصمود والكرامة، ومتحف دنشواي بمحافظة المنوفية، الذي يؤرخ لمأساة دنشواي عام 1906 ودورها في تشكيل الوعي الوطني.
كما حضرت المتاحف الفنية الكبرى بقوة، من بينها متحف الخزف الإسلامي بقصر الأمير عمرو إبراهيم بالزمالك، بتحفته المعمارية ومجموعته التي تضم أكثر من 300 قطعة من مدارس فنية متعددة، ومتحف الفن المصري الحديث الذي يوثق مسيرة الحركة التشكيلية منذ عشرينيات القرن الماضي عبر نحو 11 ألف عمل فني.
وكانت الإسكندرية عروس البحر المتوسط حاضرة بقوة فى المبادرة ، حيث فتح متحف ومكتبة الفنون الجميلة أبوابه للجمهور، كما شارك مركز محمود سعيد للمتاحف، المقام داخل قصر الفنان الرائد محمود سعيد، ليقدم نموذجًا لمجمع ثقافي متكامل يضم عدة متاحف وقاعات وورش، ويستضيف فعاليات مستمرة طوال العام.
وتقدّم المشهد أيضًا متحف مختار، الذي يجسد مسيرة رائد النحت المصري الحديث، ومتحف محمد محمود خليل وحرمه، بما يحويه من روائع فنية عالمية لا تُقدّر بثمن. كما استقبلت أكاديمية الفنون زائريها في متحف الفنون الشعبية، مواصلة دورها في حفظ التراث الشعبي والحرف التقليدية.
وفي المقابل، أتاح قطاع صندوق التنمية الثقافية زيارة متحفي أم كلثوم ونجيب محفوظ، بينما شارك المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية بمقتنياته التي تعود لأكثر من 200 عام، قبل أن تختتم دار الأوبرا المصرية الخريطة الثقافية بمتحف محمد عبد الوهاب ومتحف الأوبرا.
لم تكتفِ المبادرة بالزيارات التقليدية، بل رافقتها برامج ثقافية واحتفاليات بمناسبات متنوعة، مثل اليوم العالمي للغة العربية، والعيد القومي لبورسعيد، واليوم العالمي للإعاقة، إلى جانب فعاليات عن تاريخ الفن والأدب المصري. في رسالة واضحة مفادها أن المتحف ليس مكانًا للفرجة فقط، بل فضاء للتعبير والحوار والتفاعل.
وفي إطار سعي المبادرة لكسر الحواجز التقليدية بين الجمهور والمتاحف، خرجت مبادرة “فرحانين بالمتحف الكبير.. ولسه متاحف مصر كتير” من القاعات المغلقة إلى الفضاء العام، عبر حضور لافت داخل مترو الأنفاق والقطار السريع. في تعاون يستحق الإشادة بين وزارة الثقافة ووزارة النقل؛ عبر عرض مواد بصرية وتعريفية عن المتاحف المشاركة، ومختارات من معرض فني نظمته وزارة الثقافة بالتعاون مع الجمعية المصرية للكاريكاتير تحت الاسم نفسه، ضم أكثر من 150 عملًا فنيًا لرسامين من 35 دولة، في مشهد فني عالمي احتفى بروح مرحة وراقية، بالاحتفاء بافتتاح المتحف المصري الكبير كمنارة جديدة للحضارة والهوية، وتقدير أصحابها لمصر وثقافتها العريقة، كما تشمل المقاطع معرضًا تخيليًا للتصوير الفوتوغرافي يضم صورًا حقيقية ونادرة لعدد من الفنانين المصريين والعالميين الذين زاروا المواقع الأثرية المصرية واحتفوا بالتصوير معها، منهم: أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وعمر الشريف، وفيروز، وغيرهم ، إلى جانب رسائل توعوية تشجع المواطنين على زيارتها واكتشاف كنوزها. تحوّلت عربات المترو ومحطات الانتظار إلى منصات ثقافية مفتوحة، يطالع فيها الركاب، خلال رحلاتهم اليومية.
“فرحانين بالمتحف الكبير.. ولسه متاحف مصر كتير» ليست مجرد مبادرة عابرة، بل خطوة على طريق طويل لإعادة بناء علاقة المجتمع بالثقافة، والتأكيد على أن عامًا قد ينتهي، لكن حلم المتحف المصري – بوصفه بيتًا للذاكرة والوعي – يتجدد باستمرار .