” عم سيف “.. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام

– صباح الخير
– صباح النور
– لو سمحت لماذا دكان الحج سيف مغلق ؟
– الحج سيف تعيش انت
حاول أن يرسم على وجهه علامات الأسى والدهشة
– الحج سيف مات لا اله الا الله
– ( سؤال معتاد ) مات ازاى ؟ هو كان عيان ؟
– ( إجابة معتادة ) آبداً تعب شوية ، دخل المستشفى يعمل منظار مات فى حجرة العمليات
( سؤال جديد وقديم فى نفس الوقت )
– كام سنة عمرة ؟
– ٦٠ تقريباً
( حوار داخلى )
عمره مثل عمرى تقريباً ، اصبح لا يمر أسبوع إلا و واحد معارفى يموت .
يبدو ان النهاية تقترب ، لكنى اتمتع بصحة جيدة ، ولا يعتريني أى اعراض لأمراض قادمة ، دور البرد كل عام وفقط ، اهتم بالطعام الصحى وأمشى كثيراً وأبعد دائماً عن الانفعالات ،
( صمت طويل وأفكار تذهب و تجئ ) .. لكن الموت لا يحتاج إلى مقدمات ، أتريد أن يقدم لك ملك الموت عذرا حتى يقبض روحك ، يقول لك مثلاً ، عذراً أنت مريض بمرض عضال يؤدى إلى وفاتك ! أو عذراً سأدبر لك حادثاً ما يؤدى إلى مصرعك حتى تتقبل فكرة موتك .. ! لا والف لا ، تذكر المهندس حسين زميلك فى العمل ، فى صباح يوم الاجازة تاخر فى النوم قليلاً على غير العادة ، دخلت زوجته لكى توقظه وجدته قد أسلم الروح
هكذا بكل بساطة دون اى مقدمات ، لقد انتهت حياة حسين بكل ما فيها من أفراح وأحزان ، وحب وكره ، وسعادة وشقاء ، ترك كل ما صنع فى حياته ولم يأخذ معه شيئًا
( عودة الى الحوار مع جار الحج سيف )
طيب ممكن توصف لى عنوان منزله حتى أتمكن من عمل الواجب
⁃ اخر بيت فى الشارع على اليمين.
⁃ (شاب يقف امام منزل قديم متهالك يغسل سيارة قديمة ويستمع الى صوت راديو السيارة بصوت مرتفع )
⁃ السلام عليكم منزل الحج سيف
⁃ أيوه يا حاج اتفضل
⁃ طيب لو تقدر تنادى على حد من أولاده لعمل واجب العزاء
⁃ محدش يعزيك فى حاجة وحشة أنا أبنه
⁃ اسف يا ابنى على الإزعاج .. ممكن تخفض صوت الراديو قليلاً حتى أسمعك
⁃ توجه الفتى على مضض وخفض صوت الراديو وعاد وملامحه تحمل سمات الضجر
⁃ البقاء لله يا ابنى والله انا لسه عارف من صاحب الدكان اللى قدام دكان والدك
⁃ الحمد لله يا حاج على كل شئ ، محدش يعزيك فى حاجة وحشة ، اتفضل اشرب حاجة ، ( قالها بملل وزهق وهو يدير وجه وينظر نحو السيارة المبتلة بالماء)
⁃ لمؤاخذه يا ابنى مش دى برضة عربية الحج سيف ؟
⁃ ايوه ياحاج أى خدمة ( قالها بضجر )
⁃ لا يا ابنى انشاء الله تكون آخر الاحزان !
⁃ لم يرد عليه وتوجه الى داخل السيارة وعاود رفع صوت الراديو على أغنية لعمر دياب بأعلى صوت ،، عاد الى منزله وعلى الدرج قابل ابنه يهبط مسرعاً وهو يدندن باغنية ، استوقفه و سأله
⁃ أين أنت ذاهب ؟
⁃ آبداً يابابا رايح اغسل العربية زى ما انت أمرتني !
⁃ ارجع لا تفعل
⁃ لماذا يا والدى ؟
⁃ رد بعصبية ، أهو كده وخلاص ،، دلف من باب الشقة وجد زوجته تجلس على مقعد مواجه للباب وتقوم بتقطيع الخضار وفى عيونها دموع ،، شعر بانقباض ولعبت فى رأسه الافكار وقبل ان يذهب بعيداً بهواجسه سألها مباشرة
⁃ بتبكى ليه ؟
⁃ مفيش حاجة
⁃ بتوتر وهو يكظم غيظه ،، لماذا إذاً البكاء ؟
⁃ صحيت الصبح أحط الأكل لكمال وجليلة لقيت “جليلة ” جثة هامدة ، ماتت ياعينى وهى بتحاول تبيض ،، استقبل الخبر بهدوء حامداً ربه أن المتوفى عصفور ممكن أن يبتاع واحدا غيره ، لكنه شعر بانقباض واعتبر موت العصفورة “جليلة ” فألاً سيئاً ومؤشراً على اقتراب الموت منه ،،
فى صباح اليوم التالى لم يجد رغبه للذهاب للعمل ، اتصل بالمصلحة و تقدم بطلب أجازة مرضية ، توضأ واستقبل القبلة ورفع تكبيرة الاحرام ، واذا به يتذكر الموت ، قرأ الفاتحة على مكس ثم قرأ سورة الانفطار حتى وصل الى ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) ذرف دمعة ساخنة نزلت على خده ، ثم ركع وسجد فى خشوع وأطال فى الدعاء بالرحمة والمغفرة ،
لاحظت زوجته ان فترة سجوده قد طالت انتابها القلق وقبل أن تندفع نحوه رفع رأسه وأكمل الصلاة ،، وضعت زوجته الفطار أمامه لاحظت أنه يأكل بعدم شهية ، عملت له كوباً من الشاى وجلست بجانبه
⁃ مالك يابو العيال حالك متغير من إمبارح ؟
⁃ لا أبداً ،، هقولك ايه كل من عليها فان
⁃ لا الله الله حقاً وصدقاً كلنا أموات ولاد أموات ، لكن إيه اللى فكرك
⁃ الموت علينا حق يا حاجة ولازم النفر يعمل حسابه على مقابلة وجه الكريم
⁃ قلقتني عليك انت عيان ؟
⁃ وهو يا حاجة الموت عايز سبب !
⁃ لأ طبعاً بس عايزه اطمن عليك
⁃ اطمني مفيش حاجة ،،
فى المساء لم يتوجه الى القهوة لمقابلة الأصدقاء وذهب الى المسجد قبل صلاة العشاء ، أصر أن يرفع الأذان والإقامة ، وبعد ان فرغ من الصلاة توجه مباشرة الى البيت ، اخذ اللحاف من حجرة النوم وتمدد على الكنبة بالصالة وطلب من زوجته الهدوء لأنه قرر منذ هذه اللحظة أن يهجر حجرته وينام فى الصالة ،
كان فى قرارة ذاته يريد أن يطمئن أن أحداً يراه وهو نائم ، حتى اذا ما فاضت روحه تعرفوا على موته بسرعة ،
استمر الحال هكذا ، نوم فى الصالة ، وانقطاع عن العمل ، والذهاب الى المسجد فى الخمس فروض ، وزاد على ذلك جولات أسبوعية بين مساجد آل البيت وحضور الدروس الدينية والحضرات الصوفية ثم قرر ان يقدم على طلب معاش مبكر ،
استلم مكافاة نهاية الخدمة وقدم للحج عن طريق القرعة ، وتحولت حياته الى سياحة دينية بين المساجد والتأملات الروحانية التى تدعو الى الزهد فى الحياة وتفضيل الحياة الآخرة عن الحياة الدنيا ، وفى أحد أيام الجمعة بعد أن أدى الصلاة قابل صديقة فى المصلحة ، تبادلا التحيات والسلامات ، حتى سأله زميله
⁃ اراك ذابل الجسد والروح .. أين ضحكتك المجلجلة ووجهك الباسم وقلبك المقبل على الحياة ؟
⁃ ياه ياحاج لسه فاكر ! ياله حسن الختام
⁃ ختام ايه ياراجل ده انت فى عز شبابك !
⁃ شباب ايه ياراجل ده انا تميت الستين
⁃ الحياة تبدأ بعد الستين
⁃ اشكرك على المجاملة الرقيقة
⁃ مجاملة ايه ياراجل انا قدامك اهو نفس عمرك والصحة والحمد لله بمب واتجوزت تانى وفى منتهى السعادة
⁃ وقعت صدى الكلمات على نفسه باستغراب ثم سأله أنت اتجوزت فعلاً ؟
⁃ اه طبعاً هو حرام ولا كان حرام شرع ربنا هتعارض ربنا !؟
⁃ حاشا لله إنما قصدى يعنى إحنا عواجيز
⁃ الشباب شباب القلب ، ثم ضحك حتى ارتج جسده كله ، ثم عاد الى الحديث بجدية ، مال برأسه نحوه كأنه يفضى اليه بسر ثم قال : ليك عندى عروسة لكن ايه ، ترجعلك شبابك فى لحظة ، اخذه الفضول وسأله مين ؟
⁃ واحدة صحبة المدام ، تعالى زورني يوم الجمعة القادم بعد صلاة العشاء وشوفها أنت مش خسران حاجة ، ثم سلم كلاً منهما على الآخر ومضى كليهما الى طريقة ،
عاد الى البيت والأفكار تراوده والأسئلة تحاصره ، هل فعلاً ممكن أن يقدم على الزواج مرة أخرى وهو فى هذا السن ،
دلف الى حجرة النوم يغير ملابسه وقف أمام المرآة يدقق النظر فى ملامحه ، مازال اللون الغالب على شعره الاسود ، مع بعض شعيرات بيضاء هنا وهناك اعطت لمظهره جاذبية اكثر ، جسد ممشوق القوام ، طول مناسب ، وجه لا يخلو من وسامة ،
ليلتها انتابه القلق لم يستطع ان ينام فى الصالة ، عاد للنوم مجدداً فى الحجرة ، ظل طوال الليل يفكر فى قبول عرض صديقة مرة ، ويلعنه فى نفسه مرات ، كان هادئ النفس راضياً قانعاً ، أصبح الآن قلقاً متوتراً ، ظل هكذا الليل كله لم يغمض له جفن حتى أصابه الإعياء ثم راح فى ثبات عميق قبل أذان الفجر بدقائق ولم يستطع أن يصلي الفجر حاضراً ،
استيقظ صباح اليوم التالى على صلاة الظهر ، عند الاستيقاظ صاحبه مزاج مهموم وحزن لا يعرف مصدره ، توضأ وصلى الظهر فى البيت وطوال اليوم لم يغادر البيت ظل محملقاً فى سقف حجرته ،
استمر هكذا حتى اتي اليوم الذى ضرب له زميله فى العمل ، انتظر موعد صلاة العشاء بفارغ الصبر ، تأنق على غير العادة ووضع مزيداً من العطر وصلى العشاء فى حجرته على عجل ، وهبط مسرعاً نحو الشارع متوجهاً الى بيت زميله
ارتقى الدرج مسرعاً نحو الشقة والاحلام تداعب مخيلته ، طرق الباب وانتظر .. مرت ثوان كانها ساعات ، حتى فتح زميله الباب ، كانت ملامحه تشى بالحزن ، جلسا متقابلان وقبل ان يأخذهما الحديث فى مجاملات معتادة ، قال له زميله : مش عارف اقول ايه ، منذ ثلاثة ايام اصيبت صديقة زوجتى بوعكة صحية نقلت على اثرها للمستشفى ، لكنها للاسف فارقت الحياة بعد ساعات
عاد الى منزله فى المساء دخل الى حجرة النوم استبدل ملابسه ونظر الى نفسه فى المرآة مطولاً ثم ضحك بصوت مرتفع ثم اخذ يلملم اللحاف والباطنية من فوق السرير وعاد للنوم مرة اخرى فى الصالة .