الكاتب الصحفي يسري السيد يكتب : أي أم كلثوم تقصدون ؟!

حين يذكر لقب الست تكون هي وبلا منازع رغم رحيلها منذ 50 عاما …حين يذكر الغناء العربي قديمة وحديثه تكون هي على قمته ولأبالغ اذا قلت ااذا كانت هناك اهرامات فى العصر الحديث فى كافة المجالات ، تكون هى فى المقدمة ..
هى الست أو السيدة أم كلثوم
قلت منذ فترة اننا نخوض حربا شرسة لطمس وعينا الجمعى لنكون بعد ذلك لقمة سائغة امام المتربصين بمصر،
حربا تحاول نزع هويتنا وطمسها بتشويه كل ماهو مصري ، لنكون مثلهم بلا تاريخ او تميز ليتساوى الجميع والسؤال لماذا ؟
لأن مصر بمفردها تاريخ وحضارة وكل متكامل ، ويتصور البعض ان وجودهم ةاستمراهم الهش و الشيطاني والذى طبعا ب ” لا جذور” مرتبط بمحو تاريخ مصر وحضارتها وقواها الناعمة !
والسؤال هل جاء فيلم الست الذى يتناول السيرة الذاتية لام كلثوم ضمن هذه الحملة الممنهجه ؟
تعالوا نناقش الفيلم لنصل الى الإجابة
• فى البداية لا يمكن أن نقف امام حرية الإبداع بأي شكل من الأشكال ، لكن هذه الحرية ليست مطلقة اذا اصطدمت بثوابت الأمة ، ولا تعنى تشويه الرموز ووصمهم بالسوء من الأفعال والسلوك ، واهلهم بالعار بصفات لاتمت للواقع بصلة ، ولا تاريخ وطنهم بالتزييف وإعلاء لملك وحقبة وسياسات قامت ضدهم ثورة ونجحت فى تغيير خريطة العالم الثالث بل والعالم كله بدق آخر مسمارين فى نعش الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية .
• مثلا الفيلم محتشد بالمغالطات التاريخية المتعلقة بعلاقة أم كلثوم بأهلها ومتدثرا بتقنية ومهنية عالية لبريق السينما من المخرج مروان حامد ، وهذا هو كلمة السر فى وضع السم فى العسل ليصل الى الجمهور المتعدد الثقافت والوعي ، الآن وغدا من خلال صناعة سحرية للوصول الي الهدف وهو فخ التشويه التاريخي للرمز و للعائلة والحقبة المهمة من تاريخ مصر .
• نعم السير الذاتية في السينما والدراما سلاح ذو حدين؛ فهي إما أن تخلد الرمز بصدق إنساني يتماس مع الواقع والتاريخ ، أو تسقط في فخ “الدراما المصطنعة” على حساب الحقيقة التاريخية… هنا فى فيلم الست .. المبالغة الدرامية نالت من صورة عائلة أم كلثوم، محولةً واقعاً ريفياً محافظاً إلى مادة للصراع الذي قد يفتقر أحياناً للدقة والموضوعية .
• “الوالد” ..الشيخ إبراهيم البلتاجي هو المعلم الأول والداعم الأساسي لموهبة ابنته ، ورغم طبيعة المجتمع الريفي المحافظ في بدايات القرن العشرين، إلا أنه هو من اصطحبها للإنشاد بملابس الأولاد ليحميها اجتماعياً، لا ليقمعها فنياً.
والمغالطة هنا تصوير الأب كعائق أو كشخصية خاضعة لسطوة العادات بشكل سلبي يظهر “ثقل الظل” على طموح أم كلثوم، بينما الواقع يؤكد أنه خاطر بسمعته كمنشد ديني فى مجتمع محافظ ليسمح لابنته بالوقوف أمام الجمهور، وكان هو “مدير أعمالها” الأول الذي آمن بأن صوتها هبة إلهية لا يجوز حبسها.
وتحويل هذا الدعم إلى صورة “السلطة الأبوية الخانقة” قد يخدم الدراما التصادمية لكنه يظلم الحقيقة التاريخية للشيخ إبراهيم.
وتحويله الي مستغل للدرجة التى تجعله يجبرها على الإنشاد فى ليلة عاصفة مطيرة لم تبق من الجمهور فردا واحدا الا حمار مسكين غنت له الطفلة أم كلثوم!!
وتوالت مشاهد الاستعلال بعد ذلك في الفيلم
• وعلاقتها بشقيقها ” خالد إبراهيم البلتاجي ، رفيق رحلة البدايات العضو الأساسي في تختها الصغير “تحول في الفيلم من السند إلى “الظل الباهت”
والشخصية ثانوية بل وال “انتهازية” تعيش في جلباب نجاح شقيقته، متجاهلًا الدور الاجتماعي الذي لعبه كحماية لها في مجتمع لم يكن يتقبل خروج المرأة للفن بسهولة. هذا التشويه يكسر صورة “العائلة المترابطة” التي كانت الحصن المنيع لسومة ضد هجمات المنافسين في القاهرة…بل على العكس تحول الى صاحب جيب جلابية مخرومة بالتشكيك فى الذمة المالية له ولابيه الذى قدمه الفيلم بالمستغل
و قدم الفيلم الريف المصري كبيئة طاردة لا حاضنة ، يتبرئ منه أولاده ومنهم ام كلثوم بالإنتماء اليه الذي هو فى حقيقة الأمر إنتماء الي الوطن ..
و”طماي الزهايرة” هنا قيد ثقيل حاولت أم كلثوم الانفلات منه، بينما الحقيقة أن أم كلثوم ظلت طوال حياتها تفتخر بجذورها الفلاحية، واستمدت قوتها وشخصيتها القيادية من تلك الأصول…
فلم تكن رحلة الست هي “الهروب نحو الأضواء” بالتمرد على العائلة والقرية، بينما كان الواقع رحلة صعود جماعية شاركت فيها العائلة بكل ثقلها.
و أكبر إشكاليات الفيلم هي محاولة إيجاد “صراعات نفسية” مع الأهل لتبرير عظمتها اللاحقة… والحقيقة أن أم كلثوم لم تنجح “رغم” أهلها، بل نجحت “بهم” ، من البداية وحتى النهاية وان اضيف لهم اشخاص جدد ، سياسيون وموسيقيون وملحنون وادباء وشعراء لم نجد لهم ظلا في الفيلم ، وتصوير العائلة كعقبات اجتماعية يقلل من شأن الذكاء الفطري للشيخ إبراهيم الذي أدرك بعبقرية ريفية أن ابنته مشروع قومي قبل أن تكون مجرد مطربة.
نعم قد يكون فيلم “الست” قد نجح في الإبهار البصري واستحضار زمن الفن الجميل، إلا أنه سقط في فخ “الأمركة الدرامية” التي تتطلب دائمًا وجود “عدو داخلي” أو “عائلة معرقلة” ليظهر البطل في صورة المخلص… واذا كان الأمر متحقق عند البعض ، كانت أم كلثوم حالة استثنائية من التوافق بين الموهبة الفطرية والدعم العائلي المطلق ويتماثل معها عبد الحليم حافظ بشكل مختلف فى التفاصيل ، وأي محاولة للعبث بهذا الخيط التاريخي هي تشويه لقصة كفاح مصرية خالصة ، وللدور المهم للبيئة المصرية
أم كلثوم وثورة يوليو
ونأتي الي علاقة أم كلثوم بالسلطة السياسية، وتحديداً مع الزعيم جمال عبد الناصر وثورة يوليو، وكيف تم “تقزيم” أو تشويه هذه العلاقة مقارنة بالواقع التاريخي وما قدمته الدراما سابقاً من جهة وعلاقة ثورة يوليو بالإبداع والمبدعين ونهضة الستينات الثقافية من جانب أخر
إذا كان فيلم “الست” قد حاول تقديم قراءة “إنسانية” متحررة من القداسة، فإنه سقط في فخ التزييف للتاريخ من خلال تقديم علاقة أم كلثوم بجمال عبد الناصر (الذي جسد شخصيته الفنان عمرو سعد) بشكل يفتقر للعمق والندية التي كانت تميز هذه العلاقة الفريدة والسمات الشخصية لعبد الناصر التى نجح فى تجسيده من قبل احمد زكي فى فيلم ناصر 56.
الفيلم صدر لنا علاقة الإذعان بين جمال عبد الناصر وام كلثوم ، فبدلاً من التحالف وتعامل القمم كان الإذعان والخضوع ..وكأن الثورة أو عبد الناصر “أملى” على أم كلثوم توجهات معينة، أو أن استمرارها كان رهناً بقرار سياسي بحت بعد أزمة منع أغانيها في الراديو عقب الثورة مباشرة . ولم يحتف الفيلم بقرار عبد الناصر ضد هذا المنع و يُصور أحياناً أم كلثوم في موقف “المترقب” أو “الخاضع” لسطوة النظام الجديد.
ولضحالة ثقافة كاتب السيناريو والحوار لم يدرك كنه العلاقة بين ناصر وأم كلثوم ، و التى كانت علاقة “مشروعين”؛ مشروع سياسي قومي ومشروع ثقافي وجداني… عبد الناصر هو من ألغى قرار منع أغانيها (الذي اتخذه بعض الضباط الأحرار بسبب غنائها للملك) قائلاً جملته الشهيرة: “هل تريدون أن تحرموا الشعب من صوت أم كلثوم؟… اهدموا الاهرامات فقد عاشت حقبة الملك “. فقد كانت أم كلثوم “شريكاً” في الثورة، ولم تكن مجرد أداة لها.
لكن الفيلم يميل لتصوير القلق الشخصي لأم كلثوم من ضياع امتيازاتها الملكية، وكأن علاقتها بالثورة كانت “براجماتية” لتأمين مكانتها متجاهلا أن أم كلثوم كانت تمهد للثورة قبل وقوعها بسنوات من خلال قصائد تحمل نفساً اشتراكياً ودينياً تمرداً على فساد القصر (مثل “ولد الهدى” و”سلو قلبي”)… هي من ذهبت لمبنى القيادة لتهنئة الضباط، وهي من تحولت لاحقاً إلى “سفير متنقل” للمجهود الحربي بعد 1967، وبجواز سفر دبلوماسي منحه لها عبد الناصر ، وهو دور وطني لا يمكن اختزاله في “بخل” أو “تدخين” ، أو خمر ، أو قرار اتخذه ضابط صغير ، الغاه فورا عبد الناصر مثلما ركز الفيلم في بعض لقطاته.
كان ناصر قائدا يحترم الفن، وأم كلثوم دولة فنية داخل الدولة، حيث كانت العلاقة بينهما مبنية على الاحترام المتبادل والخدمة الوطنية وللدرجة التي جعلت ناصر يقوم بالصلح الفني بين محمد عبد الوهاب وثومة ليقدما لنا مجموعة من اجمل الأغاني ويتابع نشاطها مع الكثير من المتابعات الثقافية والفكرية ..
الفيلم يبحث عن “الثقوب” في الثوب الأبيض، فركز على اللحظات الهامشية والمواقف الشخصية الصدامية، مما جعل ظهور الزعيم عبد الناصر يبدو “باهتاً” درامياً، ولم ينجح في تجسيد تلك الكيمياء التاريخية التي جعلت من صوت أم كلثوم وصورة ناصر وجهين لعملة واحدة هي “عصر القومية العربية” بإلتفاف الحماهير حولهما حتى خارج العالم العربي .
قد يري البعض ان تجريد الرموز من “هالتهم” هو حق مشروع للفن، لكن عندما يتحول هذا التجريد إلى “تشويه” وتزييف للحقائق الموثقة (مثل توقيت إلقاء بيان الثورة أو طريقة تعاملها مع فرقتها الموسيقية وشربها للسجائر فلم بيق الا قيامها بالسكر فى الحانات كمعادل موضوعى للأزمات التى مرت بها مثلما نري بعض الأفلام !
ويقدم الفيلم ام كلثوم المستغلة بإستغلال حاجة الموسيققين للعمل معها فى أخذ اصواتهم عنوة فى انتخابات نقابة الموسيقيين لتفوز بأصوات المحتاجين وليس المؤيدين ..
لذلك أعتقد ان الفيلم فقد قيمته كوثيقة “سيرة ذاتية” ويحوله إلى مجرد “رؤية فانتازية” لا تمت للواقع ب لة.
السقوط
ويأتي مشهد البداية و” الماستر كي “الذي قدمه الفيلم و كأنه الهدف الذي حاول اخفاءه بواقعة سقوط أم كلثوم على مسرح “الأولمبيا” في باريس بعد هزيمة 1967 كواحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخها، لكن الطريقة التي عالج بها الفيلم ” هذه اللحظة أخرجتها من سياقها الإنساني والوطني لتضعها في إطار رمزي مثير للجدل.
فهل سقوط “الأولمبيا” سقوط ل “الست” أم سقوط “الدولة”؟
ذهبت أم كلثوم إلى باريس في مهمة وطنية مقدسة لجمع التبرعات لصالح المجهود الحربي بعد نكسة يونيو ، و الحفلة هنا “معركة سياسية” فنية وثقافية وحضارية لإثبات أن مصر لا تزال صامدة فنياً وثقافياً رغم الانكسار العسكري ومتوازية مع حرب الإستنزاف التى بدأها جيشنا بعد أيام ضد العدو ليتوج بنصر اكتوبر ..
لكن الفيلم حول “الواقعة” إلى “نبوءة بالفشل” بالتركيز على لحظة تعثر أم كلثوم وسقوطها على المسرح (بسبب اندفاع أحد المعجبين لتقبيل قدمها) بشكل سينمائي يوحي بأن هذا السقوط هو تجسيد لسقوط الدولة المصرية بأكملها في ذلك الوقت… تم تصوير اللحظة ببطء درامي (Slow Motion) مع إضاءة خافتة، وكأنها “نهاية الحقبة” أو انكسار الكبرياء المصري أمام العالم خاصة بعد الحوار الخاطف من مدير المسرح بأن الحفل فني وليس سياسي بعد تعالى الصيحات بين الجمهور بفلسطين ومصر .
لم يظهر الفيلم ان سقوط أم كلثوم في باريس كان “سقوطاً جسدياً” عارضاً، لكن “الوقوف” الذي تلاه كان هو المعجزة. .. نهضت “الست” في ثوانٍ، وبابتسامة الواثق أكملت وصلتها الغنائية، بل واستغلت الموقف لتمتص حماس الجمهور. فلم تكن لحظة ضعف، بل كانت لحظة “استعادة توازن” لمصر في قلب أوروبا… لكن الوقت الطويل والحركة البطيئة فى التصوير ارادت عكس ذلك !!
وركز الفيلم على وجود بعض الشخصيات الدبلوماسية (سفراء السعودية وانجلتراوامريكا والوجود الفرنسي طبعا ( اشارة طبعا لدعمهما اللا محدود لاسرائيل فى 1967 وقبلها طبعا العدوان الثلاثي1956 و) وكأن وجودهم ومتابعتهم لحظة سقوط ام كلثوم وتسليط الكاميرا عليهم لحظة تشفي ، وعلى الجانب الآخر انحصر دورعبد الناصر فى تدخين سيجارة !
لم يكن حضور هؤلاء السفراء (أمريكا، إنجلترا، والسعودية) مجرد توثيق لجمهور الحفل، بل استُخدم كأداة درامية لإيصال رسالة “انكسار الدولة”، وتحويل المسرح لمنصة دولية للسقوط تحت أنظار “الخصوم والحلفاء”
و”شماتة القوى العظمى” أسبابه تاريخية، أمريكا وإنجلترا في تلك الفترة (1967) على طرفي نقيض مع نظام جمال عبد الناصر ودعمهما الامحدود لاسرائيل ، وكذلك السعودية بعد حرب اليمن وجود سفراء هذه الدول في الفيلم وهم يراقبون “سقوط” الهرم المصري (أم كلثوم) يرمز إلى انكسار المشروع القومي الناصري تحت أنظار القوى التي ساهمت أو باركت هزيمة 67… والسقوط هنا لم يكن لجسد “الست”، بل كان سقوطاً لـ “القوة الناعمة المصرية” أمام القوى التي كسرتها عسكرياً.
وتحويل المسرح في باريس كساحة حرب للقول إن مصر التي خُدعت في 5 يونيو وسقطت عسكرياً، عادت لتسقط “بروتوكولياً” وجمالياً في باريس أمام العالم
و الواقع يدحض المغالطة السياسية المتمثلة في حضور السفراء العرب والأجانب لحفل أم كلثوم بباريس ..هو “اعتراف بشرعية الدولة المصرية” وبقوتها الثقافية رغم الهزيمة… السفراء لم يأتوا ليشاهدوا سقوطاً، بل جاءوا لأن “الست” كانت تمثل “دولة داخل الدولة”.
بإختصار حشد “سفراء العالم” في مشهد السقوط بفيلم “الست” هو فخ درامي حول الحفلة من “ملحمة وطنية للصمود” إلى “جنازة رمزية للدولة المصرية” والفيلم هنا لم يؤرخ لأم كلثوم، بل استخدمها “كجثة سياسية” ليعبر عن وجهة نظر صُناعه في نكسة 67 وضياع الحلم القومي.
الملكية والثورة
و هذه النقطة تقودنا الى الجوهر الحقيقي للفيلم حيث أختار صُناعه تبني رؤية “رومانسية” للملكية مقابل رؤية “سوداوية” للثورة والجمهورية، وهو ما يتجلى بوضوح في المقارنة بين تصوير الملك فاروق والحكم الملكي وتصوير جمال عبد الناصر و قادة ثورة يوليو.
الملك فاروق: يمنح نيشان “الكمال ” لام كلثوم ليسرق مع قيام ثورة يوليو و يتم تصوير حقبة الملك فاروق وكأنها عصر “الجمال المطلق والكمال الملهم “، ويظهر الملك في صورة الحاكم الذي يقدر الفن والجمال والرقي، و إظهار الجانب “الأرستقراطي” للملك كداعم وحيد لأم كلثوم، متجاهلاً أن علاقتها شابتها توترات (خاصة مع الملكة الأم نازلي التي عارضت زواج أم كلثوم من شريف صبري باشا، خال الملك).. يعني تقديم و تصوير الملك كشخصية “عظيمة” بلا شائبة وهو نوع من الحنين لزمن الملكية (Nostalgia) الذي يطمس الحقائق التاريخية حول أسباب قيام الثورة أصلاً
وفي المقابل يأتي تهميش “تكريم الثورة” وجمال عبد الناصر مقابل تضخيم “عطايا الملك” من الأوسمة الملكية (مثل وسام الكمال الذي حصلت عليه أم كلثوم عام 1944) كدليل على رقي العهد السابق، لكنه في المقابل يغفل أو يمر مروراً عابراً على التقدير غير المسبوق الذي نالته من “دولة يوليو” مثل التجاهل المتعمد من الفيلم بأن ثورة يوليو هي التي منحت أم كلثوم “جواز سفر دبلوماسي”، وهي التي جعلت منها “أيقونة قومية” بقرار سياسي من عبد الناصر…ومنحتها جائزة الدولة التقديرية عام 1968 وهو تكريم رسمي لم يحصل عليه فنان بهذا الثقل من قبل…
“الصدام” أو “السقوط”
لكن الفيلم اختار أن يركز على لحظات “الصدام” أو “السقوط” (كما في مشهد الأولمبيا) بدلاً من توثيق لحظات التتويج الجمهوري الذي جعل منها “كوكب الشرق” فعلياً في كامل التراب العربي.
و يظهر الضباط الأحرار في الفيلم أحياناً بصورة تفتقر إلى الكاريزما أو الثقافة، في مقابل صورة “الباشوات” والملك الذين يفيضون رقيًا متجاهلا موقف عبد الناصر وبعض الضباط الاحرار مثل ثروت عكاشة من الفن والثقافة … هذا التباين البصري والسلوكي يهدف إلى إقناع المشاهد بأن “الجمهورية” كانت بداية تدهور الذوق العام، وهو ادعاء يتناقض مع حقيقة أن أزهى عصور أم كلثوم الفنية (بالتعاون مع بليغ حمدي وعبد الوهاب والسنباطي ومكاوي الخ ) كانت في الخمسينيات والستينيات تحت رعاية نظام يوليو.
لقد تحول فيلم “الست” من سيرة ذاتية لمطربة تاريخية إلى “مانيفستو سياسي” يعيد قراءة تاريخ مصر الحديث من وجهة نظر منحازة. من خلال تضخيم صورة الملك فاروق وتصويره كرمز للكمال المفقود، مقابل تقزيم دور ثورة يوليو وتصوير لحظات سقوط أم كلثوم كرمز لسقوط الدولة، يعني سقط الفيلم في فخ “التسييس” الذي أفسد القيمة الفنية للعمل.
ام كلثوم “الست” لم تكن ملكية ولا جمهورية؛ لقد كانت “مصرية” فوق كل اعتبار، وكان صوتها هو القاسم المشترك الذي لم يستطع الملك ولا ناصر الاستغناء عنه. وتصويرها كأداة للمفاضلة بين العهود هو ظلم كبير لتاريخ “فاطمة إبراهيم البلتاجي”.
رموز الفن
تجاهل الفيلم علاقة ام كلثوم برموز الفن أمثال رياض السنباطى وزكريا احمد وبليع حمدى ومحمد عبد الوهاب والموجي.. الخ وكأنها نبت شيطانى فى اشارة لتجاهل بل اسقاط رموز الحركة الفنية وعندما قدم القصبجى قدمه مجرد عازف عود فى تخت بل ومحاولا قتل الملحن محمةد الشريف
ونأتي للملف الصحي …طبيا حول الفيلم أزمة الغدة الدرقية و المعاناة الإنسانية إلى “تشويه بصري”مثل جحوظ في العينين وتأثيره على حالتها النفسية والبدنية ، و المبالغة في “قبح” المرض ب”التدهور الشكلي” الصادم، مع التركيز على لقطات قريبة (Close-ups) تبرز الجحوظ بشكل قد يراه البعض “منفراً” درامياً.
وهذا عكس الواقع التاريخي وحرص ام كلثوم على “هيبتها” وصورتها أمام الجمهوربإرتداء النظارة السوداء الشهيرة ، لا لإخفاء المرض فحسب، بل للحفاظ على تلك الهالة الوقورة. والفيلم، في محاولته لتقديم “واقعية فجة”، كشف ما حرصت كوكب الشرق على ستره طوال حياتها، وهو يعد “انتهاكاً لخصوصية الرمز” بدلاً من كونه تعاطفاً مع مرضها…
وحتي الرفض الطبي لإجراء العملية الجراحية في الولايات المتحدة صوره الفيلم وكأنه نابع من خوف طفولي أو عناد شخصي، أو حتى هوس بالشكل الخارجي فقط.
ولم يؤكد ان رفض أم كلثوم للجراحة كان نابعاً من تقارير طبية حذرتها من أن أي خطأ جراحي بالقرب من الأوتار الصوتية قد ينهي مسيرتها الفنية للأبد.. لذلك اختارت “الست” أن تعيش بآلام الجحوظ وتغير الملامح في سبيل الحفاظ على “الحنجرة” التي كانت ملكاً للشعب العربي بأكمله. الفيلم لم ينصف هذا التضحية، بل ركز على “الألم الجمالي” أكثر من “القرار المصيري”.
يعني النظارة السوداء تحولت بفضل ذكاء أم كلثوم إلى “أيقونة” للموضة والغموض الفني…لكن أظهره الفيلم كأنها “قناع” تضطر لارتدائه لتختبئ من الناس، وصور لحظات نزعها للنظارة في الكواليس بشكل يوحي بالانكسار التام.. لقد طوعت أم كلثوم مرضها لخدمة صورتها الكاريزمية، وهو ما فشل الفيلم في نقله، حيث أظهرها كـ “ضحية” للمرض أكثر من كونها “منتصرة” عليه بفنها..
لم يدرك صناع الفيلم ومنتجوه مع افتراض حسن النية ان محاولة “أنسنة” العمالقة لا تعني بالضرورة التركيز على مواطن ضعفهم أو تشويه علاقاتهم بمن صنعوهم (سواء الأهل أو الوطن)
رحلت أم كلثوم وبقيت صورتها في الوجدان كنموذج للشموخ، وجاء الفيلم ليقدم “فاطمة” التي تتألم وتضعف وتختلف مع عائلتها،
اخيرا ..نقد الفيلم لا يقلل من القيمة الفنية للأداء أو الإخراج، بل يسلط الضوء على “الأمانة التاريخية” تجاه شخصية لم تكن مجرد مطربة، بل كانت جزءاً من تشكيل الوجدان والهوية المصرية.
• و يبقى السؤال: هل خدم هذا التناول سيرة كوكب الشرق، أم أنه حاول هدم “الهرم الرابع” لإقامة بناء درامي هش لا يصمد أمام صدق الوثائق التاريخية؟… أم لأهداف اخري مدروسة بعناية بهدم وتشويه كل رموز مصر سياسيا وثقافيا وفكريا