محمد نبيل محمد يكتب:اعترافات جولدا عن ترحيل دمشق للروس الذى كاد ان يعصف بخطة الخداع

عشية يوم كيبور، والذى يبدأ من بعد الغروب حيث تجتمع العائلات اليهودية مساء الجمعة بالمعابد اليهودية وسواء كانت ملتزمة دينيا أو غير ذلك فالجميع يلتزم بطقوس تمنع الحركة والعمل بشكل عام، وهنا لجأت جولدا لتوجيه اوامرها لسكرتيرها الشخصى للتحضير لاجتماع يوم الجمعة لتوترها من معلومة رحيل العائلات الروس من دمشق بشكل جماعى، لذا طلبت من وزيرى الحزب القومى الدينى المقيمين بالقدس ان يوافياها الى تل ابيب، وتقول:”مع ذلك فقد كان هناك تسعة وزراء فى المدينة، فطلبت من سكرتيرى أن يرتب اجتماعا طارئا ظهر يوم الجمعة” ومن هذا الإقرار يبدو على جولدا التوتر البالغ فقد جمعت عدد من الوزراء بالإضافة رئيس الاركان ورئيس المخابرات، فتقول:” واستعرضنا كافة التقارير مرة اخرى بما فيها التقرير الخاص بالرحيل العاجل ـ والذى كان لايزال غير مفهوم بالنسبة لى ـ للعائلات الروسية من سوريا، لكن أحدا لم يبد عليه الانزعاج”.
وهكذا كادت الاحداث فى الجانب السورى تكشف نوايا الهجوم الا ان تأكيدات الموساد والشباك وامان كانت تعتمد على عدم نية الجانب المصرى على الهجوم وان ما يحدث على الجبهة الجنوبية فى سيناء من جانب مصر لا يرتقى لاعمال عدائية ضد جيش الدفاع، وبهذا انطلت خديعة الجانب المصرى ومجريات خطة الخداع الاستارتيجى على الجانب الصهيونى بكافة اجهزته الأمنية الثلاثة وكذلك على تقديرات الموقف بالنسبة لقياداته العسكرية والسياسية، بل وانها قد غطت على الرحيل المفاجىء والجماعى للعائلات الروسية من دمشق، ولم تقتنع جولدا بنوايا عدائية او ان هناك ثمة تنسيق مشترك بين الجبهتين الشمالية السورية والجنوبية المصرية.
لكن القلق من الجانب السورى كاد ان يعصف بخطة الخداع الاستراتيجى، خاصة عندما تقول جولدا:”قررت ان اعبر عن نفسى، فقلت: اسمعوا لدى احساسا مخيفا بان ذلك كله قد حدث من قبل، ان ذلك يذكرنى بعام 1967 عندما اتهمنا بحشد قواتنا ضد سوريا”.بلغ القلق لدى جولدا ان استمعت لـ “جاليلى” فى استدعاء الاحتياطى واعلان التعبئة، لكن ذلك قرار يحتاج اجتماع الحكومة كلها، وراحت الى ما هو ابعد من قرار الاستدعاء للاحتياطى بأنها تحدثت مع الحضور لضرورة التواصل مع الامريكان حتى يبلغوا الروس بالموقف، لكن شيئا من كل هذه التدابير العسكرية والسياسية لم تحدث رغم الموقف فى دمشق الذى يثير الريبة لديها، لكنها قالت:”كيف يمكن ان يظل الرعب مسيطرا على من اندلاع الحرب، فى حين ان هناك رئيس اركان حاليا واثنين من رؤساء الاركان السابقين هما( ديان وحاييم بارليف الذى كان وزيرا معى للصناعة والتجارة) ورئيسا للمخابرات، وكلهم يقطعون بأنها احتمال بعيد؟”
بعد هذا التساؤل الذى طرحته جولدا على نفسها فى اعترافاتها ـ المدونة والموثقة ـ هى تعتمد على خبرة جنرالات جيش الدفاع المخضرمين فى تجاهل نوايا عدائية غير محتملة لا تستوجب استدعاء الاحتياطى واعلان التعبئة العامة وتحول دون التواصل مع الامريكان، فقتقول:”انهم فوق كل شىء ليسوا جنودا عاديين، لقد كانوا جميعا من الجنرالات ذوى الخبرة، ومن الرجال الذين قادوا الاخرين فى معارك وانتصارات وكان لكل منهم سجل عسكرى حافل، اما مخابراتنا فمعروف عنها انها من بين احسن المخابرات فى العالم”.
بلغت مهارة وحنكة خطة الخداع الاستراتيجى لمصر ليس فقط انها جعلتهم يتجاوزون رحيا الروس من دمشق، بل واقنعت كبار القادة العسكريين والامنيين الصهاينة والمشهود لهم بالكفاءة، والأعجب ان جولدا اعترفت ان الجهات الخارجية والتى تراقب الموقف المصرى ايدت فى تقاريرها ذات الرأى العسكرى والامنى داخل الحكومة وجيش الدفاع، وتقول:”ان المصادر الاجنبية التى كنا على اتصال مستمر معها قد افقت بصورة مطلقة على تقديرات خبرائنا، فلماذا اذن اشعر بالقلق؟”وتذهب جولدا الى ان القلق قد يدفعها لاعلان التعبئة وهى بالامر المكلف على خزانة الدولة العبرية، كما حدث سابقا، وتقول:”منذ عدة اشهر فى مايو (ايار) تلقينا انذار وقمنا باستدعاء الاحتياطى ولم يحدث شىء” وهنا تكمن مهارة وصبر خطة الخداع الاستراتيجى لمصر، بل ان جولدا تعترف بصراحة:”هذه الحقيقة لا يمكن ـ بالنسبة لى ـ ان تنمحى، وليس هناك اى عزاء فيما قد يقوله احد او فى كل التهدئة والتحجج بالعقل الذى حاول زملائى تهدئتى به، ليس المهم هو ما يمليه المنطق”وهذا اعتراف صريح من جولدا بأن المصريين قد خدعوهم وجعلوا ما يبدو من تحركات على الجبهة الجنوبية بسيناء يتفق مع المنطق ويقبله العقل اللذان يؤكدان بأن المصريين أمامهم عشرين عاما حتى يفكروا بعملية ـ غير شاملة ـ ضد جيش الدفاع، كل هذا التعقل والمنطق كان حاكم المشهد والمسيطر عليه فى اراء وتقارير القادة العسكريين والامنيين فى الكيان وجيش دفاعه، بل ان المشهد اصبح احتفاليا بكيبور وغير عابىء بمخاوف جولدا، فتقول:”اصبح ضروريا ان اعود الى منزلى، وكان مناحم وأبا قد دعيا بعض الاصدقاء الى زيارتهما بعد موعد العشاء، وفى العادة فان اليهود يتناولون العشاء مبكرين ليلة كيبور، باعتبارها اخر وجبة لهم خلال اربع وعشرين ساعة”ومرت ليلة ما قبل الحرب، ونستكمل فى القادم ان شاء الله الساعات الاولى من صباح كيبور.