” طبيب روحانى حضرتك !؟ ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام

سئم متابعته للموج وتردده الدائم بين البحر والبر، وهو في طريقه اليومي يفتش عن الخلاص. دخل القصور الشاهقة البنيان والفائقة الجمال، وذهب إلى عشش الفقراء، وتقاسم معهم أرغفة الخبز الجاف وملح الطعام. رقص مع الراقصين واستمع مع المستمعين، وسار بين المشيعين وعزف مع الفرحين. هتف في المظاهرات، وباع عندما تمسك الآخرون. لكنه ظل كعصفور شريد، يطير بين الأشجار محلقًا في السماء، يبحث عن الخلاص.
انتهى مبكرًا من عمله، وما إن دخل إلى شقته حتى ألقى بجاكيت البدلة والجورنان اليومي على المنضدة وسعى نحو الحمام.
تخلص من ملابسه سريعًا ووقف تحت الدش مغمض العينين مستسلمًا تمامًا لتدفق تيار المياه البارد يتساقط فوق رأسه ويضرب جسده بقوة، وهو شارد بذهنه يستعرض يومه كله منذ أن استيقظ حتى الآن، ثم يكرر ذلك مع اليوم السابق ثم اليوم قبل السابق وهكذا. غاص في الأيام على قدر ما أعفته الذاكرة.
لم يجد في المقارنة أي شيء يذكر مختلفًا في الأيام عن بعضها. ألقى بجسده المبلل على السرير الضيق بحجرة النوم، تمنى أن يغفو قليلًا، ليعطي لعقله استراحة ولروحه هدنة من المعارك الشرسة التي يخوضها يوميًا، يستعرض فيها انتصاراته وهزائمه، أفراحه وأحزانه، نزواته واستقامته. يخجل من نفسه أحيانًا ويتمرد أخرى ويبتسم دائمًا ساخرًا من عجائب القدر وقدرته على تغيير كل الخطط والترتيبات.
تقلب وتقلقل وأغمض عيناه كثيرًا، لكن عقله ظل حاضرًا يقظًا يأبى أن يغفو. جلس نصف جلسة وأسند رأسه على ظهر السرير وأمسك بالجريدة يقلب فيها على غير هدى. نفس العناوين ونفس القضايا ونفس الحوادث حتى صفحة الوفيات تكرر نفسها.
ذهب إلى صفحة الإعلانات يبحث في دور السينما عن أي فيلم جديد يشاهده. وهو يبحث، اصطدمت عينه بإعلان عجيب لأول مرة يصادفه في حياته: شركة تعلن عن إصلاح جميع أنواع الأعطاب التي تصيب الروح (أعطاب القلب – الأحزان – الآلام النفسية – التعب العقلي – وإعادة التأهيل للروح تمامًا مع ضمان 6 سنوات). اتصل على رقم الهاتف وحدد موعدًا بعد يومين في السابعة مساءً.
قبل الموعد المحدد، كان قد استقر على مقعد بين مقاعد كثيرة يشغلها المرضى الذين اكتظت بهم العيادة من كل الأجناس تقريبًا. أخذ يقارن بين الوجوه وبعضها، يحاول أن يراهن مع نفسه على معرفة مرض كل واحد في الحضور. استغرق في تصوراته حتى انتبه على صوت ينادي على اسمه ويدعوه للدخول للكشف.
استقبله طبيب في حلة بيضاء ووجه مشرق بشوش، أخذ اسمه وسنة الميلاد ثم بدأ الحديث:
– اتفضل حضرتك بتشتكي من إيه؟
– ألم يا دكتور في كل روحي.
– منذ متى وأنت تشعر بهذا الألم؟
– منذ وعيت على الدنيا.
– تذكر حادث محدد بعده شعرت بألم نفسي شديد؟
– نعم… لحظة ولادتي.
– من أخبرك بهذا؟
– أمي أخبرتني أنها انتظرت القابلة طويلًا بعد أن جاءها المخاض، ولما تأخرت عليها قامت أمي بإخراجي للدنيا بنفسها. انقطع نفسي أثناء الولادة مما اضطرها أن تلطمني على وجهي بقوة حتى استعدت أنفاسي. وحكت لي أنها ظلت بعدها تبكي لمدة ثلاثة أيام متصلة حزنًا على استقبال الدنيا لي بهذه الطريقة.
– تذكر حادث ما في طفولتك ترك في نفسك أثرًا؟
– وفاة أمي.
– هل أنت متزوج؟
– مطلق.
– عندك أولاد؟
– أظن.
– ماذا تقصد؟
– عندي لكني لا أعرفهم ولا هم يعرفون أباهم.
– ماذا تعمل؟
– مدرس.
– مدرس إيه؟
– علم نفس بمدرسة ثانوية للبنات.
– دخلك مناسب؟
– مناسب ولكني لست سعيدًا به.
– لماذا؟
– دروس خصوصية.
– لك أصدقاء؟
– كثيرًا.
– بتحبهم؟
– بالتأكيد.
– كم مرة تجتمعون خلال الشهر؟
– ولا مرة.
– لماذا؟
– هم مشغولون ونتواصل عبر الهاتف على استحياء.
– هل لك نشاط اجتماعي؟
– نعم، أنا عضوًا بحزب الوفد.
– عظيم، إذن أنك تشارك في القضايا الاجتماعية؟
– في الحقيقة لا.
– ولماذا أنت إذًا عضوًا في حزب سياسي؟
– لأنهم يستدعونا فقط إذا كانت هناك انتخابات.
– هل هناك علاقة عاطفية في حياتك؟
– كانت عاطفية!!
– وماذا هي الآن؟!
– مادية.
– هل لك أي هوايات؟
– القراءة.
– في ماذا تقرأ؟
– التاريخ.
– عظيم وإلى ماذا توصلت؟
– إنه مفيش فايدة.
ابتسم المعالج الروحي ثم أمسك بالقلم يكتب تشخيص الحالة وكتابة الدواء،
كتب قائلًا: حالة نادرة من الصدق أدت إلى النفور من الحياة ويحتاج المريض إلى عملية نقل كذب على نفسه وعلى الآخرين وغسيل كامل للروح