جيهان عبد الرحمن تكتب : بلاد العميان !

جيهان عبد الرحمن
حين كتب هربرت جورج ويلز قصته الشهيرة «بلاد العميان» عام 1904، أراد أن يقدم درسًا أدبيًا عن العلاقة المعقدة بين الفرد والمجتمع، بين المعرفة والجهل، بين مَن يرى ومَن يرفض أن يرى.
في تلك القصة، يجد رجل مبصر نفسه في وادٍ نشأ أهله على العمى عبر أجيال متتابعة، حتى ظنّوا أن عدم الإبصار هو الأصل، وأن أي حديث عن الضوء أو الألوان ليس إلا ضربًا من الهذيان ،ولأن اختلافه أقلقهم، طالبوه بأن يُضحي بعينيه ليصبح “سليمًا” مثلهم
أحيانًا يكون البصر ذاته جريمة في مجتمع لا يريد أن يرى !
وبعد أكثر من مئة عام، يجد القارئ ما يستدعي تلك القصة مجددًا، ليس في أدب الخيال، بل في واد قريب، جرت داخل جامعة أسيوط.
القصة الحديثة تبدأ حين قرر د. عادل النجدي، أستاذ التربية وعميد كلية التربية الأسبق، أن يرسل لطلابه نسخة مجانية من كتابه الجامعي بصيغة PDF، مراعاة لظروفهم المادية، ولأن الوقت يداهمهم قبل امتحانات الميدتيرم، ولأن المنصة الإلكترونية لم تفعّل خدماتها رغم سداد رسومها.جورج ويلز
تصرف بسيط في ظاهره، يحمل حسًا تربويًا وإنسانيًا، ولا ينتظر صاحبه منه سوى أن يسهّل الطريق على طلاب يقطعون مسافات طويلة يوميًا، ويعانون من أعباء مالية ليست خافية.
لكن في مقابل هذه النية، كان هناك من يرى المشهد بصورة مختلفة تمامًا.
فما اعتُبر مساعدة للطلاب، رآه آخرون إخلالًا بنظام، فتمّ سحب مقررات د. النجدي وإسنادها لغيره، ثم أحيل للتحقيق، وامتد الخلاف حتى وصل إلى ساحات القضاء الإداري، الذي حدد جلسة 28 نوفمبر لنظر القضية
السؤال المُلح: ما الذي تغيّر؟
بحسب ما قاله د. النجدي نفسه، فإنه يقوم بإعطاء الكتاب مجانًا منذ ثلاث سنوات، دون أن يعترض أحد.
فلماذا أصبح الأمر مشكلة الآن؟
للإجابة، لا بد من النظر إلى النظام المالي للكتاب الجامعي داخل بعض الكليات.
فالكتاب الذي يكلف نحو مائة جنيه، يُعاد عرضه بسعر أعلى، وتدخل حصيلته ضمن بند «الملكية الفكرية»، وتتوزع نسبه على جهات إدارية وأكاديمية.
ومن ثم، فإن تقديم الكتاب مجانًا، في نظر البعض، ليس مجرد مبادرة لطالب محتاج… بل خللٌ في منظومة مالية قائمة.
هنا تعود رمزية «بلاد العميان» بقوة:
ليس لأن هناك من يريد اقتلاع عيني أحد، بل لأن وجود شخص يختار أن يرى — أو أن يجعل الآخرين يرون — قد يربك نظامًا اعتاد العتمة، أو على الأقل اعتاد ألا يخرج أحد عن صفوفه.
رغم أن د. النجدي خاطب وزارة التعليم العالي رسميًا ليعرض ما حدث، فإن الرد لم يكن حاسمًا، وبقيت التفاصيل معلقة.
الصمت في مثل هذه القضايا لا يخدم أحدًا:
لا يخدم المؤسسة التعليمية، ولا يحمي الطالب، ولا يعزز الثقة في آليات الإدارة داخل الجامعة.
فالجامعة، في جوهرها، ليست مجرد مبانٍ أو لجان أو لوائح، بل مساحة للمعرفة، وتعاقد أخلاقي بين المؤسسات وطلابها، يقوم على احترام العلم وحماية حق الطالب في الحصول عليه دون إرهاق مادي أو نفسي.
وحين يتحول الكتاب — أداة العلم الأساسية — إلى أزمة، نكون أمام سؤال أكبر من د. النجدي، وأكبر من جامعة أسيوط نفسها.
تُظهر هذه الواقعة أن العمى قد لا يكون في العيون، بل في الرؤية، في القدرة على إدراك ما هو جوهري.
فالطلاب الذين ينتظرون معرفة، يجدون أنفسهم محاصرين بنظام يحمّلهم فوق طاقتهم.
والأستاذ الذي يحاول أن يكون سندًا، يصبح طرفًا في أزمة.
والوزارة التي يُفترض أن تُنهي النزاع، تلتزم صمتًا يعمّق الالتباس.
إنها لحظة تستدعي من الجميع أن يعيدوا النظر في فلسفة التعليم الجامعي:
هل الكتاب مشروع تجاري؟
هل المبادرة تجاه الطالب تُعد خروجًا على النظام؟
وهل من الطبيعي أن يصل خلاف حول مقرر إلى القضاء؟ في انتظار كلمة الفصل
القضية الآن أمام القضاء الإداري.
والأسئلة ليست قانونية فقط، بل تربوية وإنسانية أيضًا.
فالحكم المنتظر لن يكون مجرد قرار إداري، بل رسالة:
هل تشجع الجامعة الأساتذة الذين يخففون الأعباء عن طلابهم؟
أم أنها تعاقب كل محاولة لكسر قوالب راسخة، مهما كانت نواياها؟
في نهاية القصة، يبقى التشابه مع قصة ويلز قائمًا، ولكن باختلاف مهم:
في بلاد العميان الأصلية، كان الحل المقترح هو نزع عيني المبصر.
أما هنا، فإن الخلاف يدور حول من يستحق أن يفتح عينيه… ومن يحق له أن يفتح أعين الآخرين.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.