حلول حاسمة لأخطار العولمة .. قراءة في بحث د مفيدة إبراهيم “العوربة مقابل العولمة”

دراسة بقلم الشاعر محمد الشرقاوي

الشاعر محمد الشرقاوي

لا يزال أهل العلم والفكر والرأي يتابعون باهتمام شديد كل ما يطرأ على الساحة العلمية والفكرية من جديد سواء على المستوى الداخلي بدافع الانتماء وحب الوطن وإعلاء مصالحه أو على المستوى الدولي باعتبار التأثر الذي ينتج عن كون العالم قد أصبح قرية صغيرة بفعل وسائل التواصل والتكنولوجيا الحديثة التي لا تتوقف عن التطور وملاحقة البشر أينما كانوا في أدق تفاصيل حياتهم.
ومن القضايا التي شغلت العقول وستظل كذلك في الحاضر والمستقبل قضية العولمة وأمواجها العنيفة وما لها من مخاطر شديدة قد تجرف المعالم الرئيسية لدولة ما أو شعب ما إذا لم يكن لديه من وسائل القوة والصمود ما يكفي للبقاء على سطح الكوكب.
وسنعرض في هذا المقال قراءة لتلك الدراسة التي أعدتها الأستاذة الدكتورة مفيدة إبراهيم علي عبدالخالق، عميد كليات الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر، والتي جاءت تحت عنوان (العوربة مقابل العولمة في المجتمع العربي عامة والمصري خاصة) وهي مدرجة في أحد مجلداتها الثمينة وعنوانه (في الأدب العربي الحديث والمعاصر، مقالات وفنون) وقد لفتت بشدة أنظار وعقول المفكرين والمثقفين وبعد قراءة فاحصة نجد أن خيوط الموضوع قد تجمعت لديها فنسجت تلك الدراسة الفائقة في جودتها من حيث المضمون والتناول بأدلة دامغة تبهر العقول وأفكار نابعة من انتمائها العميق لدينها وبلدها الحبيب مصر وحضارتها التي سبقت التاريخ وأنارت جنبات الكون كذلك للتعبير عن وفائها لرسالتها العلمية والفكرية.
تطرح الكاتبة في دراستها تنظيرا جديدا لقضية العولمة من ناحية المفهوم وجوانب التأثير من خلال عدة محاور أساسية يتضمن كل منها عرض سلبيات العولمة ثم اقتراحات مبتكرة لكيفية العلاج، ولا شك أن تناول القضايا الكبرى المؤثرة يحتاج إلى دعائم أساسية منها العزيمة القوية والإرادة الصلبة والبصيرة الثاقبة ويجتمع كل ذلك في وعاء من الإخلاص العميق المتجذر في العقل والشعور على حد سواء، وسنعرض في السطور التالية موجزا لما ورد بتلك المحاور راجين من الله تعالى الوفاء بمحتوى الدراسة بما يلبي رغبة القراء والمتابعين.

– المحور الأول:
في البداية تطرح الكاتبة مصطلح (العوربة) كمفردة حديثة العهد ثم تؤكد أن العولمة تهدف إلى اقتلاع الشعوب من جذورها الدينية والحضارية كما تبين كيف اختلف زعماء العولمة حول عدم مطابقة المسمى للمتغيرات الكونية فمن نهر العولمة إلى قطار العولمة إلى صاروخ العولمة وغير ذلك ثم تختم هذا المحور بعدم موافقتها على فكرة الرفض المطلق للعولمة وتوضح ذلك في أكثر من موضع بتلك الدراسة، فوجهة نظرها ترى أن الرفض لا يمنع العولمة من اقتحام أهدافها التي أشرنا إليها مسبقا.

– المحور الثاني:
ولمواجهة التأثير الحتمي للعولمة يأتي مصطلح وتعريف العوربة الذي ورد في صفحة ٣٢٢ من المجلد: (العوربة دعوة لفهم أوقع وأعمق للواقع من حولنا، الواقع السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني بصفة عامة) إذن العوربة ليست انغلاقا أو هجوما أو مصادرة دون وعي وهي ليست أيضا تخلفا ولا رجعية ولا غير ذلك.

– المحور الثالث:
وفي هذا المحور تتناول المؤلفة كيفية تفعيل العوربة مقابل العولمة في عدة مجالات منها ما تحقق بالفعل ومنها ما يرجى تحقيقه وهي كالآتي:
أولا: في المجال السياسي
وذلك من خلال فهم شامل للأحداث العالمية ودراسة المتغيرات والتكتلات التي أوجدتها العولمة وكيفية التعامل معها، ثم توضح السطور الفرق بين العروبة والعوربة حيث الأولى تمثل انتماء وجوديا أما الآخرى فتمثل التكاتف العربي القوي للحفاظ على الهوية المشتركة والثقافة واللغة والدين والتراث للنجاة من هيمنة العولمة.
ثانيا: تفعيل العوربة في المجال الجغرافي:
وهنا تؤيد الكاتبة رأي اثنين من المفكرين هما العالم الكندي مارشال لوهان والكاتب فيصل القاسم، فهما يؤكدان أنه رغم نجاح العولمة في تحويل العالم لقرية صغيرة إلا أنها أفادت في توحيد وتثبيت القوميات وإظهار ثقافتها المشتركة وهويتها الخاصة وزيادة في الإقناع ساقت لنا الكاتبة مثالا عن دولة فرنسا التي فشلت في إدماج الأجانب في ثقافتها فظلوا مرتبطين بثقافتهم الأصلية.
– تفعيل العوربة في المجال الثقافي:
سعت العولمة وستظل إلى محو الثقافات المحلية والقومية مستخدمة وسائل الإعلام والتواصل وثورة التكنولوجيا ولكنها دون قصد أفادت في عودة المثقفين العرب المقيمين بدول غربية إلى ثقافتهم القومية وخاصة من دول المغرب العربي، كذلك أفادت العولمة الإعلامية في توحيد النخب فضلا عن أطياف الشعوب العربية فبدأت جميعا التركيز على قضاياها وزيادة الوحدة الثقافية وتلك كانت من نتائج العولمة لكنها على عكس مخططاتها الأصلية، كما تشير الدراسة من خلال تناولها للعولمة الفكرية إلى ضرورة التصدي لفرض النموذج الغربي كنموذج وحيد للعولمة التي يتم توظيفها لأهداف خاصة بتلك الدول على حساب مصالح غيرها ومن أمثلة ذلك محاولة الهيمنة الأمريكية ورفض التنوع الثقافي بحجة ظهور التعصب مما أدى لنشأة اتجاه آخر يدعو لضرورة الوعي بالخصوصيات الثقافية والحضارية وربما يظهر اتجاه ثالث يتوسط بين الاتجاهين، وقد أشارت الكاتبة إلى عدم وجود مفهوم محدد للعولمة الفكرية حيث توجد مفاهيم عديدة نابعة من مدارس فكرية مختلفة.
– العوربة في المجال الأدبي:
ترفض د مفيدة فكرة العولمة الأدبية التي تهدف إلى صهر الآداب المختلفة في بوتقة واحدة من خلال وحدة الأجناس الأدبية وأصولها وغاياتها مع تعدد لغات التناول، وتؤكد أن العولمة الأدبية صعبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة ونرى أن ذلك هو عين الصواب لأن الأدب الناجح هو الذي يلبي احتياجات الفرد ثم العائلة ثم القرية فالمدينة فالدولة ككل كما تشير إلى اعتزازها وفخرها باللغة العربية وآدابها وأماكن نشأتها وتأثيرها الخالد في الآداب الأوربية ومما سبق نلاحظ دعوة صريحة للتمسك باللغة والآداب والفنون العربية لتفعيل سبل مقاومة العولمة وتحجيم أخطارها.

– الدور الاجتماعي للعوربة:
تنبه الكاتبة إلى بعض السلبيات الطارئة على الشارع المصري والعربي والتي خلفتها الظروف الاقتصادية ومنها التدني الأخلاقي والبطالة التي أفرزت العديد من المشكلات الاجتماعية وأيضا سلبية رجال المال والأعمال وغير ذلك مما أفقد الأفراد ثقتهم وأحلامهم وقادهم إلى الهجرة والعزلة وتبني أفكار غير معتدلة، ونضيف إلى رأي الكاتبة ما يعانيه المجتمع إثر التغريب المتعمد في طرق التعامل ومشكلات الأسر المفككة والتهرب من الواجبات الوطنية وعدم الوعي بالملكية العامة إلى غير ذلك أما عن طرق العلاج فقد أشارت المؤلفة إلى أهمية العمل بتعاليم الإسلام الذي يحفظ للمرء عقله وحياته في أمن وأمان كما أشارت في صفحة ٣٣٥ لرأي العالم الشيخ جاد الحق علي جاد الحق الذي نادى بأهمية مواجهة خطر الإدمان في بلاد العرب والمسلمين وخاصة مصر،
– المحور الرابع
وهنا تعلن الكاتبة رأيها صريحا برفض العولمة التي تسعى للهيمنة وتوحيد المشاعر والأحاسيس وفرض ألوان أدبية محددة لأن ذلك ينافي الطبيعة البشرية التي تختلف رغباتها وأفكارها حسب المكان والزمان، كما تنادي برفع شعار العالمية لا العولمة وشتان بين المصطلحين فالأول يعني المشاركة والتعدد ويضمن تحقيق العوربة والآخر يعني السيطرة والتماثل ويمنع تحقيق العوربة.
والخلاصة
كما وردت في الدراسة أن العولمة الاقتصادية ضرورة تفرض نفسها بقوة ولابد من التعامل معها بما يضمن مصالحنا، أما العولمة الثقافية فهي مكمن الخطورة لأنها تسعى لمحو المعالم والخصائص الذاتية لكل مجتمع كما تهدف إلى التخلي عن الدين والقيم واللغة والفكر والتراث والاغتراب في كل شئون الحياة وللتصدي لذلك لا مفر من العوربة وتفعيلها والتوعية بها بكل الطرق الممكنة.
ونختم هذه الدراسة  بالإشادة المستحقة بما ورد في تلك الدراسة الموضوعية التي تنم عن عقل واع لا ينتظر الطوفان بل يصنع له السفينة ليكون على أهبة الاستعداد لمواجهة مخاطره وذلك أيضا دور زرقاء اليمامة على مدار العصور،

لقد عالجت د مفيدة قضية خطيرة تهدد الدول العربية والدول النامية بصفة عامة وأبدت من الحلول المبتكرة ما يستحق الاهتمام من كافة المسئولين فنشكر لها ذلك الجهد الكبير والحس الوطني العظيم والنزعة الدينية التي تحرسها بصيرة ثاقبة وقراءات واسعة وهي لا ترجو من وراء ذلك إلا وجه الله تعالى الذي أمرنا بحماية أوطاننا الغالية، فندعو لها بدوام الرفعة والتوفيق في جميع أعمالها والحمد لله رب العالمين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.