الفنان ناصر النوبي يكتب: بين يقظة الوعي وإرث الحضارة ..رؤية للمستقبل

لابد أن تكون هناك رؤية واضحة للمستقبل، رؤية تتجاوز اللحظة وتقرأ ما وراء الأحداث، لأن العالم اليوم يمر بمنعطف شديد الحساسية، تحكمه تحولات سريعة وغياب شبه كامل لفكرة العدالة. العدل هو أساس الحكم للشعوب والحكام، وهو القانون الأول الذي لا يستطيع أحد تحديه. فكما تسقط كل إمبراطورية مهما بلغت قوتها، تنهض شعوب أخرى رغم سقوطها أو غفلتها عن دورها الإنساني. تلك سنة الحياة وقواعد لعبتها الحتمية.
وإذا كانت بعض الأمم تستسلم، فإن شعوبًا أخرى—ومنها شعب مصر—تمتلك القدرة على الوقوف من جديد مهما اشتدت العواصف، لأن جينات القوة والصمود لم تُخلق لتضيع. لقد ترك الملوك القدماء إرثًا خالدًا من الحكمة والعظمة، ظل يسري في أبناء مصر عبر العصور، ليُولِدوا الحق من أضلاع المستحيل، ويثبتوا أن الحضارة ليست ماضيًا جامدًا، بل طاقة حيّة تسري في ذاكرة الأرض والإنسان.
إن العالم اليوم لا يرحم المتخلفين عن ركب الثورة المعلوماتية. لقد أصبح التواصل لحظيًا، والضمير الجمعي يتحرك بسرعة الضوء، والبحث عن العدالة صار حلمًا عالميًا مضطربًا، تحاول الإنسانية جاهدة أن تحققه. وفي قلب هذا الركض الحضاري، يتأكد لنا أن قمة الإنتاج البشري لا تزال تبدأ من خيال الشعراء، أولئك الذين تغذّوا من الحضارة وأعادوا صوغها في صور وأحلام لا تنتهي، أحلام تشبه نهر النيل… تجري باستمرار، لا تتوقف، ولا يمنعها أحد مهما حاول.
نهر النيل ليس مجرد ماء، بل قصة حياة كاملة. هو العطية السماوية التي لم ينكرها إلا جاحد، هو عمود الروح المصرية، هو الذي حمل البشر منذ آلاف السنين، وعندما يشرق كوكب النجمة الشعرى اليمانية في سماء المحروسة، تهطل الأمطار في أعالي النيل إيذانًا بميلاد دورة حياة جديدة. هنا مفتاح النيل، وهنا مفتاح الأبدية، وهنا سر البقاء الممتد من الماضي إلى المستقبل.
ولذلك لا بد أن يكون العلماء والأذكياء في الصدارة، لأن الأمم لا تُبنى إلا بالعقل. ومن دون وعي جمعي مدرك لحجم ما يواجهه العالم اليوم، لن نستطيع أن نرسم مستقبلًا يليق بتاريخ مصر ولا طموحات شعبها.
إن الرؤية للمستقبل تبدأ من إدراك الحاضر، ومن احترام قوانين الحياة، ومن الإيمان بأن الشعوب العريقة لا تنكسر… بل تعود دائمًا أقوى.