محمد نبيل محمد يكتب : قناة السويس العبور الدائم والتدخل المستحيل (27)
اتفاقية السودان ورقة الضغط على مصر

كانت مفاوضات السودان وما أحاط بها منذ أن بدأت في شهر أكتوبر من عام 1952 والتي انتهت بتوقيع الاتفاقية في فبراير 1953 ميدانًا كبيرًا للتجربة والاختبار أكثر من أربعة أشهر بطولها حافلة بالأحداث المتلاحقة والإرادات المتعارضة والتيارات والمناورات المكشوفة أو المستوردة ولقد استطاعت كل الأطراف من خلالها أن يقيسوا حجم القوة، ودرجة التصميم لدى كل منهم وأن يتعرفوا على أساليبه وعلى مزاجه وعلى التوازنات التي يستطيع أن يعتمد عليها أو يتحسب لها.
وبالتالي فإن كل الأطراف خرجت من هذه التجربة وهي تعيد التفكير وتراجع الحساب وتحاول تقييم مواقفها استعدادًا لمرحلة جديدة فبعد السودان كان الدور بلا جدال هو الدخول في مرحلة التفاوض من أجل حل قضية الجلاء حيث كانت هي القضية الرئيسية في تفكير قيادة الثورة فلقد وصلت التطورات أخيرًا بالجميع إلى النقطة الحرجة من أجل البدء في مفاوضات الجلاء ولقد كانوا يدركون – وعلى رأسهم جمال عبد الناصر – أن المفاوضات سوف تكون شيئًا مختلفًا عن تلك التي دارت بشأن استقلال السودان ففي حين أن مفاوضات السودان كانت بالدرجة الأولى قادرة على الرؤية السليمة والحركة السياسية النشطة فإن مفاوضات الجلاء سوف تكون صراعًا من نوع آخر.
ففي 12 فبراير 1953 استطاعت القوتان المتفاوضتان حول مصير السودان مصـر وبريطانيا أن توقعا اتفاقية بشأن الحكم الذاتي وتقرير مصير السودان وتحديد فترة انتقالية يتوافر للسودانيين فيها الحكم الذاتي الكامل وتعتبر هذه الفترة تمهيدًا لإنهاء الإدارة الثنائية وتصفية هذه الإدارة.
وبقدر ما أعطت هذه الاتفاقية خطوة كبيرة طموحة للسودانيين على طريق استقلالها الكامل فقد أوضحت لهم الرؤية في العلاقات مع شقيقتهم مصر ومدى إيثارهم على نفسها فقد بدأوا بالسودان قبل أن يحصلوا هم على استقلالهم وبذلك كسبوهم صوتًا في المجال العربي إلى جانبهم عندما يئون الأوان لتجميع الأصوات العربية في مواجهة الاستعمار وهذه نقطة تحسب لهم في سجل العلاقات العربية.
كما أن توصل الطرفين – المصري والبريطاني – إلى تفاهم حول مشكلة السودان وتوقيعها لاتفاق مشترك بشأنه في 12 فبراير 1953 مهد السبيل في حينه للانتقال إلى معالجة موضوع الجلاء عن مصـر وفي ذلك صرح الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية المصري للصحفيين عقب توقيع هذا الاتفاق بقوله: إن هذا الاتفاق يعد خطوة إلى الأمام في الاتجاه الصحيح وإنا لآملون ومصممون على أن نتبعها – بإذن الله وعونه – خطوة مثلها متخطين الخطوة الثانية المرتقبة وهو يقصد بالخطوة المرتقبة مرحلة المفاوضات من أجل الجلاء عن مصر.
وعندما سُئل: متى ينتظر أن تبدأ محادثات الجلاء عن منطقة قناة السويس؟ أجاب بقوله: في أسرع وقت ممكن وإننا لا نحسب وقتنا بالسنيين ولكن بالدقائق والثواني.
وجرى حوار قصير بين رئيس الوزراء المصري والسفير البريطاني في القاهرة يعكس تفهم الإنجليز لموقف المصـريين وإلحاحهم في بدء التفاوض بعد أن ذاقوا طعم الانتصار في مفاوضات السودان وهذا جزء من حزارهما معا .
السفير البريطاني: يسعدنا أن هذا الاتفاق سيفتح عهدًا جديدًا بين مصر وبريطانيا.
رئيس الوزراء: إني لأرجو لك على أن المسألة الأولى – وهي مسألة سحب القوات البريطانية من منطقة قناة السويس – هي ذات أهمية بالغة ونحن على استعداد لبحثها الآن.
السفير البريطاني : أرجو أن يكون هذا الاتفاق، فالأحسن للجولة الثانية.
رئيس الوزراء : نود أن نعرف متى تكونون على استعداد لبدء المباحثات في شأن الانسحاب من القناة؟
السفير البريطاني : سأبلغ مستر إيدن وسأخبركم فور تلقي رده.
هكذا شجعت اتفاقية السودان الجانبين – المصري والبريطاني – على الدخول في المفاوضات فيما يتعلق بالجلاء بعد كسر حاجز الكراهية وتصور كل جانب للآخر ربما تصورًا خاطئًا كما أن قيام الثورة وتغير السياسة التقليدية كانت سببًا جوهريًّا لِئن تعيد بريطانيا حساباتها خاصة أمام إصرار الثورة على تحقيق مطالب مصر بتخليصها من الاحتلال البريطاني وهذا ما أوضحه جمال عبد الناصر في أحد تصريحاته:
وضعت نتائج الاتفاقية الخاصة بالسودان زمام المبادرة بين المصريين وبرهنت أن في إمكاننا أن نتولى قيادة الحركات الوطنية في أفريقيا بالطريق إلى النصر، ولن يلبث عملنا أن نتولى قيادة الحركات الوطنية في أفريقيا بالطريق إلى النصر ولن يلبث عملنا أن يؤتي أكله، وسيدفع البريطانيون الثمن ولقد حذرناهم من هذه النتيجة بصراحة وأوضحنا لهم أننا نستطيع أن نجعل وجودهم غير محتمل في قناة السويس إلا أن هذه التصريحات والإلحاح والضغط الذي لم يكن البريطانيون على عهد به من المصـريين من ذي قبل جعل البريطانيين يراجعون موقفهم الذي تتابعت أحداثه بسرعة كبيرة لم تكن هكذا إيقاعها لديهم من قبل في تعاملهم مع الدول التي استعمروها.
ولهذا قام الإنجليز بإعادة تقييم ما جرى في السودان وتزايد إحساسهم بأنهم خدعوا بل وغرر بهم حتى وقعوا في اتفاقية لا تتناسب مع مصالحهم في مصر.
ويبدو أن هناك نقدًا شديدًا وُجِّه للحكومة البريطانية من داخل كواليس السياسة والصحافة والرأي العام لديها مما دفع السياسي العجوز الذي حكمته عقدة الاستعمار إلى الكتابة إلى إيدن وزير خارجيته ما يعكس كل هذه المعاني في مجتمعه فيقول في رسالته: إنني أريد أن أفهم كيف وقعنا تلك الاتفاقية مع المصريين بشأن السودان؟
وكان رد إيدن أغرب مما كتبه تشرشل فقال: لم يكن أمامنا خيار آخر لقد أخطرني السير روبرت هاو بأن علينا قبول أي شروط معقولة نستطيع الحصول عليها لأن الصاغ صلاح سالم سحب الأرض من تحت أقدامنا عندما استطاع أن يوفق موقف الجنوب من الشمال في السودان فأصر تشرشل على طلب تقرير الحاكم العام في السودان روبرت هاو لأنه لم يكن يتصور عدم وجود بدائل أخرى أمام المتفاوضين ولا أستطيع أن أقبل أنه كان علينا أن نوقع أية شروط تقدم إلينا.
هنا انقلب تشرشل على المصريين وأراد أن يلحق القطار التالي بعد أن فاته القطار الأول وأراد أن يعاقبهم بالتلاعب وتمييع الموقف كما كان يمارس لعبته من قبل مع المفاوضين المصريين القدماء فنجده يؤشر على ملف المفاوضات المصرية البريطانية – الذي طلبه – بالآتي:
“علينا ترك موضوع السودان كما هو في الوقت الراهن ولكنه فيما يتعلق بمرحلة جديدة من المفاوضات مع مصر فإني أنصح بعدم التسرع”.
هكذا أصبح ما كسبه المصريون في صف السودان ضربة أفقدت أعرق الإمبراطوريات صوابها وجعلها تعيد حساباتها كل يوم فيما يعملونه مع هؤلاء الشبان المصريين فقد تغيرت الأوضاع في مصر بشكل لم تكن بريطانيا تظن أنها ستصل إليه والقادة الجدد لمصر ليسوا من الباشوات الذين تعاملوا معهم من قبل كما أنهم واعون لدروس التاريخ ودارسون للأحداث دراسة واعية عملية ومقدرون موقفهم وأن عملهم العسكري ودخولهم حرب فلسطين نمَّا لديهم مهارات لم يكن يتمتع بها من سبقوهم كالجرأة حتى في مواجهة الموت فقد تعاملوا معه من قبل مع تأكدهم من التكتل الوطني من خلفهم ممثلًا في الشعب والجيش.
بالتالي وصلوا إلى حد الاستخفاف ببريطانيا خاصة بعد أن أضاءت أمريكا الضوء الأخضـر أمامهم.
ونستكمل فى القادم ان شاء الله مجريات بدء المفاوضات.