الفنان ناصر النوبي يكتب :الوعي المزيف حين نفقد البصيرة أمام الأثر

أعجبني تصريح دولة رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي حين قال: «إنها حاجتنا، ولا بد أن نحافظ عليها»، تعليقًا على بعض الممارسات السلبية التي صدرت من زوار المتحف المصري الكبير. تلك العبارة البسيطة تختصر فلسفة الانتماء والواجب الوطني، وتكشف في الوقت ذاته عمق المشكلة التي نعيشها: غياب الوعي الحقيقي بقيمة ما نملك.
لقد زرت المتحف المصري الكبير خمس مرات حتى الآن، وكل زيارة كانت تمنحني مزيجًا من الفخر والقلق؛ فالمكان مبهر في فكرته وتصميمه، لكنه ما زال بحاجة إلى مراجعة بعض التفاصيل التي تمس جوهر التجربة الثقافية. من أبرز هذه الملاحظات ما يتعلق بطريقة تعامل إدارة الأمن مع المرشدين السياحيين، الذين يُعدّون الواجهة الثقافية لمصر أمام العالم.
فليس من المقبول أن يتحول المرشد إلى موضع جدل لمجرد أنه لم يعلّق بطاقته التعريفية بالشريط المخصص لذلك،
وكأن الأمر جريمة، بينما الأصل أن الهدف هو وضوح الهوية فقط دون تعقيد أو تصلب في الشكل. مشهد كهذا يُفقد
المكان هيبته ويضعف روح التعاون التي ينبغي أن تسود بين الزملاء في المهنة والعاملين بالمتحف.
لو أن إدارة المتحف وفّرت هذه الأشرطة ضمن خدماتها التنظيمية — سواء ببيعها في بازار المتحف أو بتقديمها كهدية
رمزية — لانتهت المشكلة قبل أن تبدأ. فالزيارة بلا مرشد تشبه حضور عرض أوبرالي دون ترجمة، فالمعنى يضيع
والجمال يفقد روحه. المتحف ليس مكانًا صامتًا، بل كائن حيّ يتحدث من خلال المرشد الذي يروي أسرار الأثر ويمنحه
حياة جديدة. لو كنت أحد القائمين على إدارة المتحف، لبادرت إلى توثيق العلاقة بين المرشدين والعاملين من خلال
برامج تثقيفية مشتركة ومحاضرات يقدمها كبار المرشدين والعلماء للأجيال الجديدة.
فالمتحف يجب أن يكون ساحة حوار وتفاعل بين علماء الآثار والمرشدين والفنانين. كما أن تنظيم عروض فنية وثقافية
داخل ساحته سيجعل منه مركز إشعاع حضاري دائم، لا يرتبط فقط بزخم الافتتاح أو الأضواء الإعلامية المؤقتة. إن
جوهر المشكلة لا يكمن في قلة الثقافة أو الوعي، بل في غياب التثقيف الحقيقي.
لقد أصبح عدد غير قليل من الناس ضحية لما أسميه «الوعي المزيف» — ذلك الذي يجعل الإنسان يبدو سويًّا في
مظهره، لكنه خاوٍ من الداخل، عاجز عن إدراك قيمة ما يراه. ولو كنت قاضيًا، لما حكمت على هؤلاء إلا بأنهم ضحايا
تغييب الوعي، لا مجرمون متعمدون. إن إعادة بناء الوعي الجمعي
مسؤولية مشتركة بين وزارتي السياحة والثقافة، عبر برامج توعوية وتثقيفية تُعيد للإنسان المصري إدراكه الحقيقي
لمعنى الجمال والانتماء. فالأثر بلا وعي لا قيمة له، تمامًا كما أن الإنسان بلا وعي لا روح له. وإذا كنا نريد أن نحافظ
على «حاجتنا»، فعلينا أولًا أن نحافظ على وعينا، لأن الوعي هو الأثر الحقيقي الذي لا يُقدّر بثمن.