الفنان ناصر النوبي يكتب: الإبداع المصري بين الماضي والحاضر

الفنان ناصر النوبي
الكمال لله وحده، غير أن عرض افتتاح المتحف المصري الكبير يُعد خطوة مهمة على طريق الارتقاء بالفن والثقافة المصرية، فقد كشف لنا هذا الحدث أن الفن الجميل لا يُختلف عليه، وأن العرض الناجح لا يحتاج إلى شهادة من أحد، لأن الجمال لا يحتاج إلى شاهد، بل يفرض حضوره بذاته.
لقد كان المصري القديم مثالًا خالدًا للإبداع والجمال، إذ لم يصل إلى بناء الهرم الأكبر في يوم وليلة، بل سبقت ذلك مراحل طويلة من البحث والتجريب. فها هو الهرم المدرّج وعبقرية إيمحوتب والملك زوسر في الأسرة الثالثة — أي في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد — يمثلان البداية الأولى في رحلة التطوير المعماري التي استمرت أكثر من قرن من الزمان حتى بلغ الإبداع قمته في عهد خوفو.
ولم يأتِ هرم خوفو من فراغ، بل كان امتدادًا لإبداع والده الملك سنفرو الذي شيّد ثلاثة أهرامات متتابعة: هرم ميدوم،
ثم الهرم المنحني، وأخيرًا الهرم الأحمر في دهشور، وهو أول هرم كامل الأركان. وبهذا وصلت العمارة المصرية
القديمة إلى ذروة النضج بعد تجاوز أخطاء الماضي، محققة التمام والكمال.
ويكفي أن نعلم أن اسم سنفرو في اللغة المصرية القديمة يعني “الذي يجعل الجميل أكثر جمالًا”، وهو وصف صادق
لجوهر الشخصية المصرية التي لا تكتفي بالجمال بل تسعى دومًا إلى الارتقاء به. تلك كانت فلسفة المصري القديم:
أن يجعل من كل ما يبدعه شيئًا فريدًا لا يتكرر.
ومن يتأمل روائع المعابد المصرية — من أبيدوس إلى الكرنك والأقصر وحتشبسوت وأبي سمبل ودير المدينة وبني
حسن ومقبرة نفرتاري ورمسيس السادس وتوت عنخ آمون — يدرك أن العبقرية المصرية كانت قائمة على التفرد لا
التكرار، لأن التكرار ممل، والإبداع لا يتصالح مع التقليد.
كنت أتمنى لو أن عرض افتتاح المتحف الكبير اقترب في فكرته من عرض أوبرا عايدة، ذلك العمل الذي جمع بين
الموسيقى والدراما والتاريخ، فصار رمزًا خالدًا يمكن إعادته في كل زمن. إن لدينا من القصص والأساطير المصرية ما
يصلح لأن يتحول إلى أوبريتات غنائية، بل إلى أوبرات مصرية أصيلة تعبّر عن روحنا وهويتنا، خصوصًا أن لدينا أوركسترا
القاهرة السيمفوني وغيره من الطاقات الفنية القادرة على تحقيق ذلك.
غير أن النجاح في أي عمل فني لا يتحقق بالاستعجال أو بالاعتماد على المظهر والابهار فقط، بل يحتاج إلى فكرة
واضحة، وقصة مؤثرة، ولحن مميز يستمد إلهامه من شاعر صادق الإحساس، ثم يأتي بعده التوزيع والهارموني
ليشكّل الغلاف الجوي للعمل الفني. فحين تتكامل هذه العناصر، يولد العمل الخالد الذي يبقى في الذاكرة. أما حين
يغيب الموضوع ويعلو الشكل على المضمون، يصبح الأثر الفني أشبه بـ”غثاء السيل”، يبهرك لحظة وينساك سريعًا.
كنت أتمنى أن يكون لدينا عمل فني مصري خالد يُعاد تقديمه بين الحين والآخر، مثلما تُقدَّم أوبرا عايدة في المحافل
الدولية. ومع ذلك، فإن نجاحنا في إنشاء المتحف المصري الكبير هو بحد ذاته إنجاز عظيم، فهو ليس مجرد مبنى، بل
حارس لهوية مصر الأبدية، وشاهد على حضارة لا تموت، لمن لم يعرف بعد أن مصر حضارة الخلود والإبداع المستمر.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.