محمد نبيل محمد يكتب : قناة السويس العبور الدائم والتدخل المستحيل (26)

نستكمل مجريات ما بعد 18 يونيو 1956 حيث تم إجلاء آخر جندي بريطاني عن مصر وألغيت الملكية وأعلن قيام النظام الجمهوري.
العمليات الفدائية للمصريين بمدن القناة
كانت أطراف اللعبة ثلاثة : طرفان أصليان أو خصمان وهما: مصـر وبريطانيا والثالث مراقب للموقف : وهي الولايات المتحدة الأمريكية وموقف كل من الطرفين الأصليين غداة البدء في المفاوضات كان كلاهما في الحقيقة قد بدأ يفقد أعصابه فهي مرحلة حرجة في علاقاتهما معًا فبريطانيا ستترك كبرى قواعدها في الشـرق الأوسط ، والتي ستمثل آخر المراحل الكبرى لانسحابها من المنطقة فى تحول جديد من علاقة التبعية للندية ، وتترك مصر التي احتلتها منذ عام 1882 ويحدث هذا الانسحاب في عهد رئيس الوزراء – ونستون تشرشل – الذى صفق له العالم منذ عدة سنوات، بعد أن قاد إنجلترا واشترك في قيادة الحلفاء إلى النصر في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور.
وهذه مصر ممثلة في قادة ثورتها الذين حملوا الأمانة وتعاهدوا أمام شعبهم على أن يحصلوا له على استقلاله وحريته مهما كان الثمن ووضعوا هذا المبدأ أول مبادئ ثورتهم.
لم يكن الوقوف أمام الأسد البريطاني مهما بلغ من الكبر عتيًّا بالأمر الهين ، فالإنجليز رجال سياسة على مر تاريخهم، وأقوى قوة عسكرية في العالم، ومالكو ناصية القوة والمنعة في المنطقة.
وتلك أدلة وأمثلة على هذه الضغوط والدوافع في نفس الوقت ففي مصـر رأى رجال الحكومة استمرار عمل الفدائيين في منطقة القناة وعملوا على تشديد الحصار حول القاعدة البريطانية لمنع تسرب أي مواد تموينية إليها من داخل الأراضي المصرية ولم يسمح بالعمل للمصريين داخلها وصاحب ذلك هجوم من جماعات فدائية منظمة على معسكرات تلك القاعدة والعمل على تخريبها وتخريب منشآتها وذلك منذ بداية الثورة واستمرت العمليات بصورة فعالة ومؤثرة عدة شهور حتى بدأت المفاوضات الرسمية في أبريل من عام 1953.
كان رجال الثورة قد وضعوا خطة صبورة طويلة الأمد أمام قوى الإنجليز فاتفقوا على أن تستمر فترة الكفاح المسلح لخمس سنوات كفترة أولى على أن يكون أسلوب العمل الفدائي أفضل من تقابل جيشين منظمين وتألفت لجنة عليا في كل وزارة لتجنيد المتطوعين كما ألف كمال الدين حسين كتائب الفدائيين التي تحولت فيما بعد إلى كتائب الحرس الوطني.
وكان هدف هذا العمل حتى من حيث إجرائه ومظهره أن مصـر لن تفاوض دون أن تشعر البريطانيين أن أبناءها على استعداد أن يموتوا من أجل قضيتهم وأن ظروفنا الآن أفضل للوصل إلى الحل الذي يرضينا فشماعة السودان التي كان يعلق عليها الإنجليز مسألة الجلاء عن مصر قد تحطمت والملك فاروق قد رحل والشعب المصري الآن على أهبة الاستعداد لمواجهة الاحتلال بأسنانه
وفي خطاب آخر لرئيس مصر أوضح فيه أكثر كيف سيكون التعامل مع البريطانيين إذا هم لم يعطوا المصريين حقهم ستحافظ مصر على استقلالها وحريتها حتى آخر رجل وآخر امرأة ومتى استأصل المصريون الاستعمار فليطمئن الغرب فسنكون أحرص منه على حريتنا واستقلالنا وإذا تعرضت مصر لأي عدوان فسنقف صفا واحدا ولن نتردد في رد العدوان وإذا لم تتخلص بلادنا من الاحتلال فسنسحب قادة الثورة من الحكومة لقيادة الشعب في حرب عصابات نشنها على الإنجليز وسننشر أعمال الفدائيين بطريقة تشعر هؤلاء أنهم يدفعون غاليًا ثمن عدوانهم على بلادنا.
هذا من الجانب الفدائي أو أسلوب إقلاق الوجود البريطاني في المنطقة ومن جانب آخر كان الهجوم الإعلامي واستعماله في إثارة الخواطر ضد الإنجليز فقد استعملوه في شكل خطب وتصـريحات كثيرًا ما حملت معاني الإثارة للمصريين وتهديد العدو المحتل.
وكان محمد نجيب وجمال عبد الناصر أكثر رجال الحكم في مصر إدلاء بالتصريحات وإلقاء الخطب فكم أوضح محمد نجيب في خطبه هذه المعاني ففي زيارته لأسوان يوم 22 مارس 1953 قال: “لقد انتهينا من مسألة السودان بفضل اتحاد الأمة أما مسألتنا فاعلموا أننا لا نرضى إلا بالجلاء دون قيد أو شرط أو نموت دون ذلك ونحن على أتم استعداد للتضحية والأمة كلها وراءنا” وغير ذلك من الخطب التي حملت الكثير من هذه المعاني.
كان الإنجليز يتأثرون كثيرًا بنتائج هذه التصـريحات والخطب ويعملون لها حسابًا لدرجة أن جعلوا لها ملفات لدراستها وحسابها بدقة وهذا هو السفير البريطاني في القاهرة يصـرح للدكتور محمود فوزي وزير الخارجية المصري في مارس 1953 أن ملف الكولونيل جمال عبد الناصر قد أصبح مليئًا بالمتفجرات وآخرها تصريح لوكالة رويتر هددنا فيه بحرب شعبية، إن هذه التصريحات وغيرها تفسد الجو كله في لندن وتخلق رد فعل من العناد يستنفد كل ما أحاول أن أقوم به بوسعي وأكثر من هذا فقد بلغتنا معلومات أن هناك عملية لتدريب مقاتلين وأن هناك أعمال تحصينات هندسية على الطريق بين القناة والقاهرة.
وكان رد جمال عبد الناصر على حديث السفير أنهم لا ينتظرون منا أن نجلس هنا بلا عمل ونحن نعلم أن تهديدهم سيف مُصْلَت علينا فإما أن يفتحوا باب المفاوضات فنسمع منهم ونقول لهم ونرى كيف تسير الأمور وإما أننا سوف نجد أنفسنا سائرين إلى صدام تحكمه الحركة الذاتية للمواقف بصـرف النظر عن رغبات الأطراف.
كان جمال عبد الناصر قد عدم ثقته في نوايا البريطانيين بل وفي قدرات المحافل الدولية من حوله وهذا ما أظهره في حديث له مع أحد الصحفيين عندما سأله: لماذا لا تنتظر مصر انتهاء سريان معاهدة 1936 وذلك في عام 1956؟ فكان رده أننا نؤمن تمامًا أن هذه المعاهدة لن يكون لأجلها نهاية لأن الإنجليز سيعرضونها كقضية على إحدى المحاكم الدولية ويحصلون بمقتضى هذا على حكم بمد أجلها وأننا كدول لا نثق كثيرًا بنزاهة هذه المحاكم لأننا نعرف أنها تحت إرادة الدول الكبرى تديرها من أجل مصالحها الخاصة.
هكذا كانت روح الشباب من رجال الثورة بعكس أسلوب طلب المفاوضات التقليدي في عهود ما قبل الثورة وتبادل الأوراق وإغلاق الأبواب بعد خروج المتفاوضين وكانت النتيجة واضحة في موقف البريطانيين من هذا الذي يجري فإن الإنجليز منذ اللحظة الأولى لم يكونوا يريدون أن يسلموا بالجلاء ولم تكن حكومة المحافظين وعلى رأسها ونستون تشرشل بأقل إصرار على هذه السياسة، وكما تبادلت الحكومة البريطانية مع السفير البريطاني في القاهرة من البرقيات والمذكرات حول تقييم الحكم الجديد في مصر وتقييم رجاله واحتمالات الاستخلاف في قيادة الثورة ورئاسة الدولة وكانت تقودهم الظنون أحيانًا أنه يمكنهم بوسيلة أو بأخرى تغيير نظام الحكم أو محاولة تغيير بعض عناصره ولكن السفير البريطاني يحسم هذه المزاعم بكتابه إلى روجر بتاريخ 10 نوفمبر عام 1953 بأنه لا بديل لحكومة مصر الحاضرة وأن مقتل محمد نجيب نفسه أو أحد القادة البارزين مثل جمال عبد الناصر لن ينهي هذا الحكم أو النظام العام وأنه إذا ما حدث هذا فإن قيادة المجلس سوف تنعقد لأحد الضباط ويشيع آنئذ نظام أكثر صرامة .
كما أنه لم يلح في الأفق أي تحرك في الجيش لأعضاء هذا المجلس من الحكم ويبدو أن الإنجليز كانوا يحاولون إثارة العناصر التي كانت تتحكم في المجتمع كالبعض من الأعيان وكبار الملاك ورجال الأحزاب ولكنهم فشلوا ويشير السفير إلى هذا في نفس هذا الخطاب إلى القلق الذي أصاب هذه الطبقة من جراء قيام الثورة وأنهم يحاولون أن يشتروا خليفة مناسبًا من رجال الجيش لاستعادة قوتهم ولكن هذا أمر مشكوك فيه لأنه لايوجد من يقوم بهذا العمل .
إن هؤلاء الناس – يقصد رجال العهد الماضي – الآن خائفون ومنقسمون على أنفسهم لدرجة أنه يبدو أنه لا يمكن لأي شخص أن يشق معهم إجراء من شأنه تجميع أي قوة مناهضة للنظام الثورى الجديد ، وحتى لو تصورنا أن نكون نحن عقدهم فإننا غير متأكدين من تحمل هؤلاء الناس مسئوليتهم وربما يؤثر على خط المفاوضات المستقبلة.
يعكس هذا الخطاب محاولات الإنجليز في الداخل وكيف فشلت في الوصول على هدفها، أما على الجانب الآخر في داخل بريطانيا فقد كان رئيس وزرائها في حالة نفسية سيئة وقد بدا ذلك واضحًا خلال سلوكه مع إيزنهاور ثم تخطيطه المتسرع غير المحسوب في الإذن بتشكيل عملية عسكرية تحاول القضاء على النشاط العسكري للمصريين تحت اسم عملية روديو التي أعدها الإنجليز للتدخل العسكري وكانوا على وشك تنفيذها منذ أوائل أيام قيام الثورة ولكن عدم تنفيذها يعني على الأقل مراجعتهم لمواقفهم لو حدث هذا وخشيتهم مغبة هذا العمل الذي لم يصبح له محل في هذا العهد الجديد.
لذلك يقول السفير البريطاني – وهو أكثرهم معايشة للموقف – إنني أصبحت على يقين من أن الوقت قد حان لكي أفوض في إبلاغ المصريين بأننا أصبحنا الآن على استعداد في وقت قريب لتحديد موعد لبدء المفاوضات وقد بلغ من قلق البريطانيين وفقدانهم أعصابهم أن أثار هذا الخطاب أعصابهم أكثر فانقسموا بصدده إلى مجموعة ظلت متشددة على رأسها أنتوني هيد وزير الحربية البريطاني ورأت إبلاغ المصريين أن الحكومة البريطانية سوف تبلغهم بموعد المفاوضات في الوقت الذي يناسبها هي.
أما وزارة الخارجية وعلى رأسها ويليام سترانج وكيلها الدائم ونائبه السفير جيمس بونكر فكانت ترى الموافقة على رأي السفير ستفنس ورأت أن التشديد في الوقت قد يدفع إلى عنف أكثر في منطقة قناة السويس لأن الأوضاع قد تغيرت وأن الأصدقاء التقليديين من العهد الماضي لم يعودوا موجودين فضلًا عن استمرار المصريين في أعمال التدريب وأن الجيش هذه المرة سيكون مع الحكومة والشعب لأنهم واحد.
بهذا كانت الخارجية أكثر واقعية وتعقلًا وأن أعمال الفدائيين في معسكرات الاحتلال البريطاني بالقناة قد أتت ثمارها التي تمناها المصريون وفعلًا أرسل أنتوني إيدن وزير الخارجية إلى السفير البريطاني في القاهرة بأن يقبل البدء في اجتماعات تمهيدية واستكشافية غير رسمية مع المصريين وتم بالفعل عقد اجتماعين من هذا النوع.
قدمت إنجلترا في هذين الاجتماعين أسسًا لمباحثاتها متضمنة خمس مسائل رأت أن تبحثها كوحدة واحدة وهي أسلوب صيانة القاعدة العسكرية لها في وقت السلم بهدف وضعها على أهبة الاستعداد إبان الحرب ونظام الانسحاب البريطاني من الأرض المصرية وبرنامج تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر وعلقت الاستمرار في أية مفاوضات على الموافقة على هذه الأمور.
في حين رأى جمال عبد الناصر أن هدف الاجتماعات يجب أن يكون تحديد إطار لما ستدور بداخله من مفاوضات وعلى ذلك فإن الخطوة الأولى هي الاتفاق على المبادئ والتوقيع عليها وإعلانها في شكل المبادئ الأساسية للاتفاقية ، ثم تدور بعدها المفاوضات التفصيلية على أن تقوم بها لجان متخصصة بمعنى أن الجلاء يكون أساس الاتفاق على أن يكون غير مشروط ويليه الاتفاق على المدة اللازمة لذلك وكذلك الإجراءات التي تتخذ حيال تنفيذه وكيفية ذلك.
أما الدفاع المشترك فهو قضية أخرى بالكامل وليست بندًا من بنود الجلاء لأن مصر أوضحت سلفًا أنه لا ربط على الإطلاق بين الجلاء والدفاع.
لم تصل هذه الجلسات التمهيدية إلى نتيجة محددة، ولم تكشف عن أسس جديدة للمفاوضات إلا أنها توصلت إلى قبول الطرفين مبدأ الدخول في مفاوضات رسمية حدد لها يوم 27 أبريل 1953 .
وعندما عُرض على تشرشل تقرير عما دار في هاتين الجلستين طلب من إيدن تأجيل المفاوضات إلى أجل غير مسمى فاختلف معه هذا الأخير وأصر على موقفه لتتم المفاوضات فعلًا في حينها.
تلك الظروف السياسية المعقدة تشير إلى الجو السياسى المضطرب الذي بدأت فيه المفاوضات بين مصر وبريطانيا.
وفى القادم ان شاء الله نتناول اتفاقية السودان ورقة الضغط على مصر.