الفنان ناصر النوبي يكتب: شجرة الجميزة بين إيزيس والسيدة مريم العذراء 

الفنان ناصر النوبي
هي ليست مجرد شجرة بل روح تمتد في الذاكرة المصرية منذ فجر التاريخ ظلها الطيب يرافق المصريين جيلاً بعد جيل وشهادتها باقية على تتابع الحضارات التي مرت على هذه الأرض من أزمنة المصريين القدماء إلى عصور المسيحية والإسلام فهي ليست شجرة عادية بل رمز للحياة والخصوبة والرحمة والحماية تجمع بين الأمومة والخلود والبعث وبين الأسطورة والدين والعقيدة الشعبية
تحت ظلها اجتمعت القصص المقدسة فالأسطورة المصرية القديمة تحكي أن إيزيس اختبأت تحت شجرة الجميزة لتحمي ابنها الإله الطفل حورس من شر ست الذي قتل زوجها أوزوريس ومن هذا الظل بدأت رحلة البعث والنور ومن نفس الظل عرفت مصر معنى الحماية الإلهية والولادة الجديدة بعد الفقد والألم أما في التراث المسيحي فقد استظلّت مريم العذراء تحت شجرة الجميزة في طريقها إلى أرض مصر ومعها الطفل يسوع تهرب من بطش الملك هيرودس فمدّت الشجرة أغصانها لتحميهما بظلها وفتحت جذعها ليختبئا في حضنها وكأنها الأم المصرية التي تحتضن الأم السماوية والطفل الإلهي
في الحالتين كانت الجميزة شجرة الأم الكبرى رمز العطاء والخصوبة والرحمة الأم التي تلد من الألم وتحمي بالحُب وتمنح الحياة حتى في أقسى الظروف فإيزيس ومريم تلتقيان في المعنى نفسه وإن اختلفت الأزمنة إيزيس تمثل البعث الأرضي ومريم تمثل الخلاص السماوي والجميزة تجمع بينهما بين التراب والنور بين ما هو دنيوي وما هو إلهي
في الفن المصري القديم ظهرت الجميزة في مناظر المعابد والمقابر كرمز للحياة الأبدية كانت حتحور تخرج من جذعها وتسقي أرواح الموتى بكأس الماء المقدس وتمنحهم الخلود وكانت أغصانها تمتد نحو السماء كأنها جسر بين الأرض والعالم الآخر وكانت الثمار تخرج من الجذع نفسه وهي ظاهرة نادرة جعلت المصري القديم يراها شجرة سحرية تنبض بالحياة من داخلها فالثمرة لا تأتي إلا بعد أن يُجرح الجذع فيما يعرف بالتختين وهو رمز عميق للجرح الذي يولّد الحياة وللألم الذي يسبق الخصب والبعث
وحين جاء العهد المسيحي لم تفقد الجميزة قداستها بل ازدادت نورًا فقد أصبحت تُعرف باسم شجرة العذراء أو شجرة
الرحمة وارتبطت بالمعجزات التي صاحبت مسار العائلة المقدسة في مصر وصارت تُذكر في الأديرة والكنائس وتُزار
تبركًا بها لأنها احتضنت النور الإلهي في رحلته عبر البلاد التي فتحت ذراعيها للسماء فكانت مصر كلها مثل الجميزة
شجرة تحمي وتمنح وتحتضن
حتى في العصر الإسلامي ظل الناس يجلّون هذه الشجرة فقد زرعت في الساحات والأفنية وظلّ ظلها مكانًا للراحة
والتأمل ومقرًا للعطاء فهي شجرة الناس جميعًا لا تفرّق بين غني وفقير ولا بين عابر ومقيم وكأنها تمثل مصر نفسها
التي تفتح قلبها للجميع دون تمييز
وفي الوجدان الشعبي تحولت الجميزة إلى رمز للونس والذاكرة واللمة القديمة تحتها يجلس الأجداد ويحكون
الحكايات وتتعلم الأجيال معنى الدفء والرحمة ضل الجميزة ما يغبش كما يقول الفلاحون لأن ظلها يرمز إلى الأمان
الدائم والوفاء الذي لا يزول حتى في قسوة القيظ وأيام الجفاف فهي الشجرة التي تمنحك ظلها بلا مقابل وتبقى
واقفة في وجه الزمن بصلابة وحنان في آن واحد
وللجميزة علاقة فلكية أيضًا إذ ارتبطت في بعض المعتقدات القديمة بالنجم الشعرى اليمانية الذي كان رمزًا لإيزيس
في السماء فالنجم هو أنثى النور السماوي والشجرة هي صورتها على الأرض النجم يعلن ميلاد الضوء والشجرة تعلن
ميلاد الحياة وكأن مصر كلها بين نجم وشجرة بين السماء والأرض بين الخلق والبعث بين الماضي والخلود
هكذا تظل الجميزة شجرة المصريين الأولى شجرة الأم الكبرى التي علّمتهم سرّ الحياة من الألم وسرّ النور من الظل
شجرة جمعت بين إيزيس ومريم بين الأسطورة والقداسة بين النيل والسماء بين الإنسان وربه هي ذاكرة الأرض
وروحها الخضراء التي

لا تموت
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.