محمد يوسف العزيزي يكتب : السودان.. الصراع الخفي وجرس الإنذار لمصر

تطورات الأوضاع في السودان، ولا سيما بعد سقوط مدينة الفاشر وسيطرة قوات الدعم السريع على إقليم دارفور، تمثل تحولًا استراتيجيًا خطيرًا لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي الأوسع. فالصراع لم يعد مجرد نزاع داخلي بين الجيش السوداني وتلك القوات، بل أصبح جزءًا من مشهد أكبر تتقاطع فيه المصالح والأطماع بين القوى الكبرى في العالم، في إطار سباق متصاعد للسيطرة على ثروات القارة الإفريقية وممراتها الحيوية.
المتابع لتطورات الحرب في السودان منذ اندلاعها يدرك أن مسار العمليات العسكرية اتسم بالكرّ والفرّ، وتكرار مشاهد السيطرة والانسحاب دون حسم نهائي، والتوقف عند خطوط معينة.. كلها مؤشرات على أن نهاية الحرب ليست نصراً لأحد، بل تسوية تكرّس واقع الانقسام الثاني للسودان وكأن المشهد مُعدّ مسبقًا للوصول إلى حالة استنزاف تؤدي في النهاية إلى واقع يفتح الباب أمام انفصال إقليم دارفور كما حدث من قبل مع جنوب السودان قبل أكثر من عقد في يوليو 2011
هذا الاحتمال إذا تحقق لن يمثل فقط مأساة للسودان، بل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري والإقليمي، لما يتمتع به الإقليم من موقع جغرافي حساس وثروات طبيعية ومنافذ مؤثرة على عمق إفريقيا الغربية والبحر الأحمر.
في خلفية هذا المشهد، تتصارع ثلاث قوى دولية رئيسية — الولايات المتحدة وروسيا والصين — على النفوذ في المنطقة، فواشنطن تسعى إلى تأمين مصالحها ومنع تمدد موسكو وبكين، بينما تعمل روسيا على تعزيز حضورها عبرالبوابات الأمنية والعسكرية، في حين تواصل الصين ترسيخ نفوذها من خلال أدوات الاقتصاد والاستثمار، وتعد السودان بما يملكه من موارد وموقع استراتيجي فريد، إحدى الساحات المركزية في هذا الصراع
ولا يمكن فصل هذه التطورات عما يجري في دول الساحل والصحراء، حيث تتزايد الانقلابات العسكرية والاضطراباتالأمنية، في مشهد يبدو أنه يسير نحو إعادة رسم خريطة النفوذ في القارة. فالفوضى في هذه المناطق ليست عشوائية، بل تخدم ترتيبات جديدة تتقاطع فيها مصالح أطراف متعددة، وتنعكس بالضرورة على أمن القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
بالنسبة لمصر، فإن ما يحدث في السودان لا يمثل شأنًا إقليميًا بعيدًا، بل قضية ترتبط مباشرة بأمنها القومي. فحدود مصر الجنوبية كانت دائمًا عمقًا استراتيجيًا بالغ الأهمية، وأي خلل في هذا العمق ينعكس على توازن الأمن الإقليمي ككل.
من هنا تبرز أهمية أن تتعامل الدولة المصرية مع الملف السوداني برؤية شاملة تجمع بين التحرك السياسي والاستخباراتي والدبلوماسي والتحرك الخشن إذا لزم الأمر، ومراجعة موضوعية لبعض العلاقات المصرية الخليجية علي قاعدة المصالح المشتركة وخطورة ما يحدث علي مفهوم الأمن القومي العربي استنادا إلى إدراك عميق بأن استقرار السودان جزء لا يتجزأ من استقرار مصر والمنطقة بأسرها.
إن ما تشهده إفريقيا اليوم هو مرحلة جديدة من التنافس الدولي، تشبه إلى حد كبير صراعات القرن التاسع عشر على القارة، ولكن بأدوات أكثر حداثة وتعقيدًا. وفي خضم هذا التحول، تظل مصر مطالبة بلعب دورها التاريخي في حفظ توازن الإقليم والدفاع عن مصالحها، من منطلق الوعي بالمخاطر التي تهدد محيطها الجنوبي وأمن البحر الأحمر على حد سواء
إن جرس الإنذار قد دق بالفعل، وما يجري في السودان ليس إلا إشارة إلى أن المنطقة مقبلة على مرحلة إعادة تشكيل واسعة، تستدعي يقظة سياسية واستراتيجية مصرية متكاملة، قادرة على قراءة المشهد وإدارة التحديات بحكمة وقوة