الفنان ناصر النوبي يكتب : المتحف الكبير… وسيادة مصر والملك المحظوظ توت عنخ آمون

الفنان ناصر النوبي

ساعات ويعود التاريخ لينبض من جديد عند سفح الأهرامات، حيث تستعد مصر لافتتاح المتحف المصري الكبير، في الاول من نوفمبر في مشهد مهيب يجتمع فيه قادة وزعماء العالم ليشهدوا لحظة من لحظات المجد الإنساني والحضاري.

ليس صدفة أن يأتي هذا الافتتاح في الشهر ذاته الذي شهد أعظم اكتشاف أثري في تاريخ البشرية — اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون، الذي غيّر وجه علم المصريات وأعاد لمصر مجدها السليب، فأصبحت الدنيا كلها تنطق باسمه.

ذلك الملك الصغير، الذي مات في ريعان شبابه، شاء القدر أن يعيش بعد موته، وأن يُخلّد اسمه كرمز للدهشة والخلود معًا. كان حظه مؤجلًا، لكنه حين جاء، جاء عظيمًا… فامتلأت الدنيا بحديثه، وتحوّل من ملك شابٍّ مجهول إلى أشهر ملك في التاريخ.

عام 1922، وبين الرمال الذهبية في وادي الملوك، أزاح العالم البريطاني هوارد كارتر الستار عن المقبرة التي ظلت مغلقة أكثر من ثلاثة آلاف عام. كانت المفاجأة مذهلة: مقبرة كاملة لم تمسها يد، تضم أكثر من خمسة آلاف قطعة من الذهب والعاج والكنوز، وكأن الزمن تجمّد ليحفظ لمصر سرّها الأعظم.

لكن وراء هذا الاكتشاف قصة سيادة وكبرياء…

ففي ذلك الزمن، كانت القوانين الاستعمارية تمنح البعثات الأجنبية حق اقتسام ما تكتشفه من آثار مع الدولة المصرية، في ما كان يُعرف بـ“نظام القِسمة” — إرث من عصور الهيمنة والنهب.

غير أن مقبرة توت عنخ آمون كانت أكبر من أن تُقسم، وأقدس من أن تُجزأ. فقد رأت الحكومة المصرية، بوعي وطني متأجج بعد ثورة 1919، أن هذا الكنز ليس مجرد آثار، بل رمز لكرامة مصر وسيادتها.

وقف الزعيم سعد زغلول، رئيس الوزراء آنذاك، موقفًا وطنيًا صلبًا، وأعلنت الحكومة المصرية أن المقبرة بكل محتوياتها ملك خالص لمصر.

رغم أن القانون كان يسمح بالقسمة، فإن القرار هذه المرة كان استثناءً… استثناءً باسم الكرامة الوطنية.

أُغلقت المقبرة أمام كارتر، واندلعت أزمة كبرى بينه وبين السلطات المصرية، لكن مصر لم تتراجع.

ثم جاءت وفاة اللورد كارنارفون المفاجئة عام 1923 لتضع حدًّا لنفوذ البعثة، وتفتح الباب أمام الدولة المصرية لتفرض كلمتها وسيادتها.

وفي عام 1924، صدر القرار التاريخي باعتبار مقبرة توت عنخ آمون كنزًا وطنيًا لا يُقسم، ومنذ ذلك اليوم لم تغادر قطعة واحدة من مقتنياتها أرض الوطن إلا في معارض مؤقتة تحت إشراف الدولة المصرية.

كان ذلك القرار منعطفًا تاريخيًا في مسيرة حماية التراث المصري، وبداية عهد جديد من الوعي والسيادة الثقافية.

واليوم، بعد أكثر من قرن، تعود كنوز الملك المحظوظ لتتألق من جديد في المتحف المصري الكبير — في عرض يليق بعظمة مصر وتاريخها، وتحت راية السيادة التي حُفرت بدماء الأجداد وإرادة الأحرار.

إن افتتاح المتحف الكبير ليس حدثًا معماريًا فحسب، بل هو تجسيد حيٌّ لسيادة مصر على تاريخها، وإعلان للعالم أن هذه الأمة التي شيّدت الأهرامات ما زالت قادرة على أن تدهش الدنيا بعظمتها.

فكما حفظت الرمال سرّ الملك ثلاثة آلاف عام، حفظت مصر لنفسها حق الكلمة والسيادة والكرامة.

توت عنخ آمون… الملك الذي أنصفه القدر بعد الموت، ومصر التي أنصفت التاريخ بعد قرون من النهب، يلتقيان اليوم من جديد، في مشهد لا يشبه إلا مصر حين تتحدث بلغتها الخالدة… لغة المجد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.