“ملك .. أم كتابة !” ..قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام 

الإعلامي محمود عبد السلام

عاد من الندوة مثقل الرأس ، مجهد البدن والعقل ، بذل جهداً كبيراً للإجابة على أسئلة الطلبة  ، الإجابات على الأسئلة الكبرى مرهقة، يرددها الشباب بكل بساطة ، ولا يعرفون ان الاجابة عليها قد تستغرق العمر كله ، الموت والحياة ، السعادة والتعاسة ، العدل والظلم ، التسيير والتخير ، لكن أصعب سؤال واجه فى ندوة الليلة جاءه من طالب سأله بكل بساطة ، هل انت سعيد يادكتور فى حياتك بعد كل هذه المعرفة ؟

فتح باب الشقة اصدر الباب صريراً مزعجاً ، أيقظ  القطة من ثباتها ، ركضت فى الظلام الدامس ، تتمسح فى قدميه ، كاد ان يسقط ، تساند على الباب ودلف الى الصالة ، واضاء المصباح ، كشفت الحجرة عن اثاث متهالك ، وسجادة متجردة من نسيجها باهتة الالوان ،
مر فى ممر ضيق بين تلفزيون قديم ومنضدة صغيرة عليها بقايا طعام عمره أيام ، ، خلع ملابس الخروج وارتدى بيجامة قديمة وارتمى على السرير ، طالعته شهادة الدكتوراه فى فلسفة الجمال ، وبجانبها صورة كبيرة وهو يرتدى الوشاح الجامعى وعلى يمينه ويساره كوكبه من اساتذة الفلسفة الكبار ،
كان على يمين الصورة عبد الرحمن بدوى ، ثم محمد الأهوانى   ووقف فى المنتصف العقاد بهامته المديدة ،  ثم هو  ، ثم زكى نجيب محمود ، القى عليهم تحية المساء بصوتٍ مرتفع ، كأنه يذكرهم بوجوده ،
نهض نحو الخارج تناول قرص مسكن للصداع ، توجه ناحية المطبخ لعمل كوب من الشاى ، بحث عن الشاى بين أكوام الكتب التى تمددت حتى احتلت آخر مكان فى المطبخ ،
بين رسالة الغفران وكتاب الاخلاق وجد تلقيمة شاى صغيرة ، عاد بكوب الشاى الى الشرفة وجلس متكأً على السور كاشفاً مدخل الشارع ،
وبينما هو غارق فى محاولة الاجابة على سؤال الطالب ، اقتربت سيارة مخرج الاعلانات الشهير الفارهة ، اخرج يده من شباك السيارة والقى عليه تحية المساء ، رد عليه التحية ، اردف المخرج قائلاً ؛ فكرت يادكتور ؟ لم تسعف الدكتور الاجابة ، رد المخرج مفيش مشاكل هتصل عليك ، وقفت السيارة تحت الشرفة تماماً ، كان ينظر اليها من اعلى حين تلقى الاتصال ، مساء الخير يادكتور
⁃اهلاً استاذ فتحى
⁃كويس ان حضرتك صاحى
⁃انت عارف انى بنام متأخر
⁃فكرت يادكتور  ؟
⁃والله نسيت الموضوع ده تماماً
⁃ازاى يادكتور حد ينسى ٥ مليون جنيه !
⁃انشغلت شوية
⁃يادكتور الموضوع بسيط والاعلان كله مدته ٤٥ ثانية ، وبما ان حضرتك أكبر استاذ فى علم الجمال كل المطلوب من حضرتك ان هتطلع بجانب النجمة الشهيرة مايسة وهى ترتدى مجموعة من المجوهرات وتأكل الآيس كريم وتقول جملتك ( الحياة من غير هذا الجمال ملهاش طعم ) ثم تأخذ الآيس كريم منها وتأكله .. وانت بتضحك شوفت الموضوع بسيط ازاى !
⁃هفكر وارد عليك
⁃ارجوك بسرعة عشان المنتج مرشح بدالك الدكتور عبد الرازق ،
اغلق الهاتف ووضع رأسه بين ذراعيه المتشابكتان واغمض عيناه وراح يتصور نفسه وهو يقول هذه الجملة بهذه البساطة ثم يعود الى البيت محملاً بخمسة ملايين من الجنيهات ، هذا المبلغ يسمح له بشراء موسوعة دائرة المعارف البريطانية ، والسفر الى فرنسا ودخول متحف اللوفر ، ومساعدة بعض الاصدقاء فى محنتهم المالية ،
وقف امام صورته بين العقاد وبدوى والاهوانى وزكى ، كأنه يستأذنهم فى الانصراف قليلاً ثم العودة للوقوف بينهم ، كان أول مرة فى حياته يدخل بلاتوه للتصوير السينمائى ، رجال تحمل معدات للتصوير والاضاءة ، وبعض النقاشين يطلون جدران خشبية ورائحة البوية تفوح فى المكان ، والة تشبه الونش مثبت عليها كاميرا من الأمام ذراعها يبلغ عدة امتار يصعد ويهبط ، وهو فى وسط هذا العالم الجديد تائه،
وجد رجلاً قصير القامة،،  يعرفه بنفسه قائلاً انا المنتج ، حمد الله على السلامة يادكتور  اتفضل حضرتك تشرب ايه ، طلب  القهوة سادة وانتحى جانباً على كرسى وجلس المنتج على كرسى اخر وبينهما منضدة ،
اخرج المنتج عقداً وشيكاً بنصف المبلغ ،ثم قال حضرتك توقع هنا وبعد التصوير والاذاعة تاخد النصف الثانى ، هم بالتوقيع على العقد وبينما هو كذلك مرت مجموعة من الفتيات ترتدى ملابس كاشفة وتضحك بصوت مرتفع فانتبه اليهم بنظره ، فعاجله المنتج قائلاً :
⁃لا عجب يادكتور فى مهنتنا كل ما تتعرى كل ما تكسب اكثر ثم غمز بعينه بشكل مريب ،
نظر الدكتور الى العقد قبل ان يمضى وجد وجه العقاد يطل عليه فى شموخه المعتاد ، أدار وجهه واسرع بالإمضاء ، قال المنتج بصوت منخفض مبارك يا دكتور ،
وقف امام الكاميرا وبجانبه النجمة الشهيرة بملابسها الكاشفة ، وخلفه الفتيات ، اضواء الكشافات ارهقت عينه اخذ وقتاً طويلاً قبل اعتيادها ،
راعاه ان جسد مايسة يلامس جسده مباشرة ابتعد قليلاً عن خط الطبشور المرسوم على الأرض ليحدد له مساحة تحركه أمام الكاميرا ، ومال بجسده بعيداً عنها ،
زعق المخرج فتحى بصوت عالى ( استوب ) ندت عن مايسة ضحكة مجلجلة ساخرة والتفتت اليه قائله :
جرى ايه يا استاذ هو انت متوضى لمؤاخذة ولا حاجة ؟ شعر بجردل من المياه تساقط عليه فجأه ،
دارى خجله بابتسامة  ثم تأسف عن تعطيل التصوير ، اخذ البلاتوه يستعد مرةً أخرى لاعادة التصوير بينما هو شارد بذهنه حاضر بجسده لكن روحه هناك فى المدرج وسط الطلبة يحدثهم عن نيتشه والفارابي وابن الرومى وبوذا ، اغرورقت عيناه بالدموع ،
استأذن فى الذهاب للحمام ، جفف عيناه المبتله ببدايات البكاء ، طالعه وجه فى المرآة ، ظهر الطالب فى الجانب وهو يعيد نفس السؤال:
هل انت سعيد يادكتور ؟ تأمل نفسه فى المرآة كأنه أول مرة يراها ، مرّ شريط حياته أمامه ، إنكفاؤه على القراءة ، تردده على المكتبات ، ليالى السهر الطويلة ، شقته المتواضعه ، سيارته المتهالكه ، طعامه فى أيام كثيرة المكون من الطعام البسيط ، صورته بجانب بدوى والعقاد وزكى والاهوانى ، رانت على وجهه ابتسامه شاحبه ، ثم اخرج الشيك من جيبه ونظر اليه طويلاً ثم نظر الى نفسه فى المرآة قائلاً .. بالطبع قد اكون سعيداً لكن فى الواقع .. نحن نملك الاختيار بين الألم .. وألم اخر.. ثم مضى .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.