محمد نبيل محمد يكتب : الصورة الذهنية لانتصار أكتوبر وهزيمة كيبور (1)

يقول المناطقة بحتمية الماصدق والمادل عن معنى المفردة ودلالة مفهومها، بمعنى أنه لا يدرك العقل معانى المفردات وماهيتها دون أن يكون لهذه المفردات ما صدق وما دل عليها، ومن هنا يدرك الجميع ـ منا ـ معنى “نصر أكتوبر” ويتبادر إلى الذهن مباشرة أمور تتعلق بالعقيدة القتالية للمصريين وما يتبعها من مفهوم “الأرض” و”العَلم” والدماء التى سالت على ثرى سيناء ثمنا لاسترداد الأرض، ورفع رايات النصر على تلك الأرض “سيناء” وأيضا تتأجج المشاعر بما يجيش بالوجدان من عواطف تختلط ما بين مرارة الهزيمة، وعار احتلال الأرض “سيناء” وما بين حلاوة النصر واسترداد الأرض “سيناء” والكرامة، ويتبع هذان المكونان وهما “الادراك” و”الوجدان” مكون ثالث وهو “السلوك” وهو ما يعبر عن الاعتقاد المعرفى بمفهوم “الانتصار” والشعور العاطفى بذات المفهوم :”الانتصار” ويتبع “السلوك” أنماطا هى فى حقيقتها تعد مادل وما صدق على “الانتصار” كالاحتفال بذكرى النصر:والاحتفاء بأبطال النصر، والاقتداء بما اتبعوه فكرا ونهجا وتخطيطا وتنفيذا، وادراك وتعلم خبرات القتال، بل والاجتهاد الفكرى والابداعى للحفاظ على ارث “النصر” و”سيناء”.
وتلك مكونات الصورة الذهنية عن “انتصار اكتوبر” لدى المصريين، إنما السؤال المحتم ادراك إجابته، وهو: هل هذه الصورة الذهنية عن انتصار اكتوبر “سرمدية” أقصد ممتدة على مدار تعاقب الاجيال؟ أم معرضة للاختزال أو التقزيم أو التهميش أو التشويه أو التحريف؟
ولعل الداعى لاثارة هذا التساؤل هو ما نشرته صحيفة “تايم أوف اسرائيل” مع مطلع شهر اكتوبر 2025 وهو:”لماذا يحتفل المصريون بذكرى نصر اكتوبر رغم ان 85% من الشعب المصرى لم يعاصر حرب اكتوبر؟!” وتسطرد الصحيفة :” ذكرى اكتوبر ستزول مع الزمن وسيطويها النسيان”.
وهنا مقتضى الحال يستوجب لنا وقفة ليست تكتيكية بل تعبوية، وربما استراتيجية بمفهوم الدولة “الشامل” نلتقط فيها الانفاس، ونراجع مساحات الفكر والوجدان التى اكسبنا اياهما “نصر اكتوبر” فقد كشف العدو لنا عن نواياه، وفى هذا الموقف شكرا مستحق لعدو أهدى لى عيوبى، فربما مع اعتياد الاحتفال وتكرار الاحتفاء بذات السلوك الاعتقادى والوجدانى، ما يجعلنا نكرر ـ نسخا ـ آليات الاحتفال والاحتفاء التى ربما لم تعد تناسب القادم من الأجيال، التى انقطعت عنها أواصر الحكى المباشر بين صناع النصر “أبطال أكتوبر” فهؤلاء الابطال كانوا الجد والوالد والزوج والاخ والابن والجار والزميل والصديق و… فى كل بيت فى ريف وبدو وسواحل وحضر مصر، وربما لأمرين انقطع الاتصال المباشر الذى اشار اليه عباقرة الاعلام الاجتماعى والاعلام السياسى فى ادبيات الاعلام عن جدوى وعظم تأثير الاتصال المباشر بين القائم بالاتصال والجمهور المستهدف أو المتلقى لرسالة موضوعها “نصر اكتوبر”، وهذان الامران هما : الاول اننا لسنا ضد الحساب والمنطق، وقواعد الحساب البديهية تقول بأنه قد مر نصف قرن وعامان على حقيقة هذا النصر، إضافة لعمر أصغر مقاتل ـ سنا ـ فى حرب اكتوبر والذى نعتقده فى عمر العشرينيات، فبهذا يدلنا علم الحساب إلى تجاوز أعمار أصغر أبطال أكتوبر ـ سنا ـ ثلاثة أرباع القرن، وعلى اقتراب الأجل ـ الذى ندعو الله ان يطول ـ لهؤلاء الابطال الرواة الحقيقيون لنصر أكتوبر، ومصدر الحقيقة المطلقة ذات التأثر الادراكى المعرفى، والوجدانى العاطفى على الجمهور المتلفى لذكرى “نصر اكتوبر”.
والأمر الثانى: هو أن آليات تلك الأجيال الحديثة تختلف كل الاختلاف عن تلك الآليات التقليدية التى اعتدنا عليها نحن ـ جيل الوسط ـ الذى يقف فى المنطقة الزمانية والفكرية والوجدانية بين أبطال أكتوبر والقادم من الأجيال، كما أن روافد الامداد بالمعلومات المعرفية “المشوهة والمحرفة” وكذلك المعالجات البصرية والسمعية “المفبركة” بأحدث تطبيقات البرامج المصممة خصيصا لمثل تلك الهجمات الوافدة عبر منصات التواصل الرقمية المتعددة والمتنوعة، تلك المصادر المعدة مسبقا والموجهة عبر آليات معارك الجيلين الرابع والخامس، بهدف هدم النموذج وتشوية القدوة وتزييف الحقائق وتحريف التاريخ، من أجل طمس الهوية الوطنية للقادم من الأجيال، وتلك معارك لم يتحدث عنها من قبل عباقرة الفكر الاستراتيجى بدءا من صن زو مرورا بليدل هارت وجون بوفر وكلاوتزفيتز، بل تلك معارك ميادينها العقل والوجدان، وبالتالى نعود الى الصورة الذهنية لـ “نصر أكتوبر” هل مازلت تملك تفاصيل قوتها وصلابتها فى الذاكرة الوطنية لدى القادم من الأجيال؟ وهل تحتاج لاعادة بناء فكرى ووجدانى مغاير لتلك البنايات التقليدية التى اعتدناها “آنفًا” منذ نصف قرن ويزيد؟
هل تلك الصورة الذهنية عن “نصر اكتوبر” تتصف بالثبات والجمود أم بالتحديث والتجديد والتفاعل مع حركة التاريخ، وهل هى قابلة للتطوير لمعايشة التغيرات الحادثة فى تلقى المعارف والتجاوب الوجدانى للأجيال الحديثة، والاهم هل الصورة الذهنية لـ “نصر اكتوبر ” مهددة ومستهدفة؟ وماذا يقول الآخر “العدو” عن “هزيمة كيبور”
وهذا ما سنتناوله فى القادم ان شاء الله.