ملامح من مجلد د غريب جمعة عن الإمام محمد الخضر حسين شيخ الأزهر

بقلم الشاعر محمد الشرقاوي (المقال الخامس)

الشاعر محمد الشرقاوي

نستكمل عرض محتوى هذا المجلد الثمين والفريد في محتواه وأسلوبه (مجلد د غريب جمعة عن الإمام محمد الخضر حسين شيخ الأزهر) فبعد أربع مقالات سابقة عرضنا خلالها أهم أحداث المرحلتين التونسية والسورية من حياة الإمام، يطل على حضراتكم الآن هذا المقال الخامس أو المقالة الخامسة (وكلاهما صحيح لغويا) لنرى سويا بداية المرحلة الثالثة (المصرية) من حياة ذلك العلامة والمجاهد والمفكر العظيم.

ومن الملاحظ أن كاتبنا د غريب يمتلك أسلوبا فريدا رائعا في تهيئة القارئ عند بداية فصل جديد أو باب مختلف حيث أوجز لنا الظروف الإقليمية والدولية التي دفعت الإمام للهجرة من سوريا إلى مصر ونستطيع أن نوجزها في السطور التالية تحت فكرتين أساسيتين متكاملتين هما: توابع اتفاقية سايكس بيكو، ومعركة ميسلون بقيادة الشهيد يوسف العظمة.

أما عن سايكس بيكو فقد أظهرت أطماعا قديمة متواصلة في بلاد العرب والمسلمين، فبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى على يد الحلفاء سعت فرنسا وبريطانيا وروسيا لتنفيذ بنود الاتفاقية وتقسيم أملاك الرجل المريض (الخلافة العثمانية) كما ظهرت بوادر الغدر ونقض العهود السابقة مع الدول العربية بمنحها الاستقلال فور انتصار الحلفاء، وأورد كاتبنا نصيب كل من الدول الاستعمارية الثلاثة السابق ذكرها كما أكدها بالخرائط المتواجدة داخل المجلد، وقد طردت فرنسا الملك فيصل بن الحسين من سوريا ودخلت بقواتها رغم استسلام وانسحاب الجيش السوري حينذاك.

أما عن معركة ميسلون فقد وقعت أحداثها بعد التأكد من أطماع فرنسا وتوغل جيشها الذي لم تقابله قوات سورية نظامية إنما تصدت له مجموعات من القوى الوطنية الشعبية بقيادة يوسف العظمة، ذلك القائد الذي يمتلك مقومات علمية أكاديمية وله خبرة كافية في النواحي السياسية والحربية ذكرها تفصيلا كاتبنا الحصيف في صفحة ١٢٣، فقد استطاع يوسف العظمة جمع المخلصين حوله وبذلوا ما استطاعوا لصد التوغل الفرنسي في الأراضي السورية وبعد قتال عنيف كانت الغلبة للغازي الغربي الذي يتفوق عددا وعتادا، ونذكر من بسالة العظمة أنه ظل يقاتل ببندقيته -رغم كثرة القتلى في صفوفه- حتى أصابته قنبلة فصعد إلى ربه شهيدا يوم ٢٤ يوليو ١٩٢٠ ولا يزال  قبره حتى اليوم مزارا لكل السوريين ورمزا للحرية والتضحية، وقد تم احتلال سوريا من قبل القوات الفرنسية وهنا أدرك الإمام محمد الخضر حسين أنه أصبح مطلوبا لتلك القوات التي اصدرت ضده حكما بالإعدام عام ١٩١٧ (كان وقتها في زيارة لتركيا إبان فترة إقامته في سوريا) نظير دفاعه وجهاده لتحرير بلاد العرب والمسلمين وتحريضه الدائم للشعوب وتواصله مع القوات الوطنية لمقاومة الاحتلال، لذلك قرر الهجرة إلى مصر متأثرا بفراق أهله وأصدقائه ومن خلال ما تقدم يطلق كاتبنا صرخة مدوية لإيقاظ الشعوب والحكومات العربية والإسلامية لأخذ الحذر والاستعداد لصد مكائد العدو وخططه التي لم ولن تكف عن تمزيق أوصال الأمة.

– مرحلة المجد الثقافي والشهرة العلمية.

هذا العنوان أطلقه العلامة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور قاصدا به مرحلة حياة الإمام محمد الخضر حسين في مصر وذلك لما تتسم  به من عطاءات ونجاحات واشراقات عديدة في مجالات علمية وفكرية متنوعة وكما ورد في صفحة ١٢٨ أن هذه المرحلة تنقسم إلى ثلاث فترات كالتالي:

اولا: ما قبل تولي مشيخة الأزهر وهي تمتد من عام ١٩٢١ حتى عام ١٩٥٢

ثانيا: خلال تولي الإمام مشيخة الأزهر من عام ١٩٥٢ حتى عام ١٩٥٤

ثالثا: ما بعد الاستقالة من مشيخة الأزهر من عام ١٩٥٤ حتى عام وفاته ١٩٥٨

وعن الفترة الأولى يخبرنا الكاتب بقصة دخول الإمام محمد الخضر حسين إلى مصر حيث غادر دمشق يوم ٢٤ من ذي القعدة عام ١٣٣٨ هجرية وبات ليلة في حيفا ثم قصد القاهرة ولم يكن يعرف أحدا بها فبات في رواق المغاربة بالأزهر ثم قام باستئجار غرفة بسيطة وظل ينفق من مدخراته التي جمعها قبل وصوله إلى مصر وراح يبحث عن عمل فلم يتمكن من ذلك لكنه سعى لتكوين علاقات جيدة مع صفوة من كبار العلماء مثل الشيخ أبي الفضل الجيزاوي شيخ الأزهر حينذاك وأيضا الشيخ محمد حسنين مخلوف ونظيره عبدالكريم عطا وغيرهم.

– الفرج بعد الصبر

يذكرنا دائما كاتبنا د غريب بمرجعيته الدينية  حين يرد الأسباب إلى مسببها، فهو يروي لنا جزاء صبر هذا الإمام وتوكله على خالقه حيث هيأ الله له رجلا يسمى جعفر باشا والي الذي تولى وزارة المعارف فعين الإمام مصححا بدار الكتب براتب تسعة جنيهات لها قيمتها وقتئذ ولكن طموح الإمام لم يتوقف عند ذلك بل سعى بطلب لأداء امتحان الشهادة العالمية في الأزهر وجاءت الموافقة من الشيخ أبي الفضل الجيزاوي شيخ الأزهر وكذلك مجلس الإدارة ولكن تم رفضه بعد تسرب أخبار عن نشاطه السياسي.

– مشاهد المجتمع المصري عند قدوم الإمام.

نصل إلى مطالعة المشهد الحياتي وخاصة العلمي والفكري في مصر حيث يصفه كاتبنا في صفحة ١٣١ بأنه يموج بالصراع بين أنصار الفكر الإسلامي المحافظ وأنصار التوجه الغربي تحت مسمى التجديد ولكل من التوجهين أدواته ومبرراته وكما يرى كاتبنا أن وجود الإمام محمد الخضر حسين يمثل دعما قويا لأنصار الفكر الإسلامي المحافظ رغم كثرة مؤيديه خارج الدوائر الرسمية في البلاد ثم يختم تلك الفقرة بكشف زيف الحضارة الغربية والتخفي وراء شعارات براقة لا يقوم دعاتها بتطبيقها عمليا ونحن نؤيده تماما في ذلك والتاريخ خير شاهد.

– رد فعل الإمام عند إلغاء الخلافة الإسلامية.

ولأن المواقف صانعة الرجال وكاشفة عن معادنهم فقد هب الإمام سريعا للتنديد بقرار كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة الإسلامية في مارس ١٩٢٤ فكانت هبة الإمام مع غيره من المخلصين من خلال الخطب والمقالات والتوعية الدائمة والمناقشات مع أهل العلم والدين وقد صدر عام ١٩٢٥ كتاب بعنوان: الإسلام وأصول الحكم للشيخ على عبدالرازق فقام الإمام محمد الخضر حسين بالرد عليه في كتاب له بعنوان: نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم وقد أهدى منه نسخا لشخصيات مهمة من أصحاب الفكر والقرار واجتمعت أراء العلماء لتأييده ومنهم شيخ الأزهر الذي أراد منحه شهادة العالمية التي يحصل عليها الأغراب لكن الإمام رفض حيث تمسك بالحصول علي الشهادة الخاصة بالمصريين

– موقف الإمام من الخلافة.

ذكرنا أن الإمام كان في طليعة المدافعين باستماتة عن منهج الخلافة الإسلامية واستمرارها مستنكرا ما فعله كمال أتاتورك وقد أوضح كاتبنا في صفحة ١٣٣ أسباب تحمس الإمام لهذا الدفاع وكذلك أسباب إصدار كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) وتلك الدوافع لم تكن مطلقا لأهداف شخصية بل كانت لخدمة الدين وترابط الأمة واتحادها حيث يرى أن الخلافة مبدأ أصيل للحكم في الإسلام حتى وإن صدر عن البشر بعض السلبيات حال التطبيق ومن هنا نلاحظ أنه صال وجال للدفاع عنها في خطبه ومقالاته وأشعاره وقد أظهر كاتبنا تأييده الكامل وقناعته التامة لرأي الإمام معللا ذلك بأنه رأي يستند إلى علم غزير ومنهج علمي معتدل ورؤية ثاقبة راسخة تميزه عن غيره ممن تحدثوا وكتبوا في هذا الأمر.

– انتصار جديد للإمام عام ١٩٢٧

ومن علامات القبول وحسن التوكل على الله أن هيأ سبحانه وتعالى للإمام محمد الخضر حسين من يعينه على تحقيق ما يسعى إليه، فقد كان من محبيه ومقدري علمه ومكانته شخص يدعى أحمد باشا تيمور -وهو من المقربين للسراي ولرئيس الديوان الملكي آنذاك- فقد قام بمعاونة الإمام في أداء امتحان الشهادة العالمية المخصصة للمصريين وتمت موافقة الأزهر وتم الاختبار أمام لجنة من كبار العلماء بقيادة العلامة الشيخ عبدالمجيد اللبان، وبالرغم من قسوة اللجنة كما يصفها كاتبنا إلا أن الإمام أبهر الجميع وانتزع إعجابهم وثقتهم حتى صاح الشيخ اللبان قائلا: هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حجاج. ثم كان انتداب الإمام محمد الخضر حسين للتدريس بكلية أصول الدين بجانب عمله بدار الكتب لكن في عام ١٩٢٨ تم على يد شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي اتفاق يقضي باقتصار عمل الإمام في كليات الأزهر دون دار الكتب فقام بتدريس السياسة الشرعية التي يتولى تدريسها صفوة العلماء لصعوبتها ومع أن هذا العمل كان بعقد مؤقت إلا أنه وضعه في مكانة علمية مرموقة.

وختاما

نخلص مما سبق تفصيله إلى معية الله لهذا الإمام حيث رسخت قدماه في مصر بعد صبر ومعاناة وهيأ الله له من الشخصيات ما يعينه وكان لعلمه وحسن خلقه دور عظيم في كسب صداقات مهمة مع صفوة المجتمع علميا واجتماعيا مع الحفاظ على عزة نفسه وقوة عقيدته الراسخة كما اتضح لنا تفضيله للصالح العام دون الأهداف الشخصية وذلك دليل على سموه  وإخلاصه لله ، كذلك يجدر بنا الإشارة إلى بصيرة د غريب وحكمته في انتقاء العناوين الفرعية لكل فقرة مع حسن التناول بالأدلة الراسخة والترتيب السردي للمعلومات المتدفقة بين شاطئي البلاغة الساطعة والأمانة القوية وهذا من توفيق الله ورعايته لمن اختصهم برسالة العلم ومنهم عالمنا الفاضل وكاتبنا البليغ د غريب جمعة وإلى مقال قادم ومزيد من تفاصيل المرحلة المصرية والحمد لله رب العالمين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.